العرب خارج صناعة التاريخ … إلا مع سورية
د. رائد المصري
بهدوء… ومن دون الحديث والتأشير والمبالغة في ممالأة الأنظمة والقوى السياسية، ومن دون رمْي التهم الجاهزة بالتبعية والاستزلام والاصطفافات خلف دور سورية ومحورها ومعاناتها طيلة ثماني سنوات من حرب عبثية، أرادها المستعمر الأميركي وتقدّم المواجهة فيها بعض العرب والكيان الصهيوني، لرسم مخطّط تفتيتي إيماناً منهم بأنّ سورية هي الميزان الذي تُكال من خلاله أثقال دول الإقليم وأحجامها وأدوار نظمها والتأثير في تشكّل نظام عالمي جديد، بينما في لبنان يتناتش السياسيون الصلاحيات الطائفية والمذهبية المسروقة وهي حق للشعب الفقير الذي لم يشبع الى اليوم لا من كهرباء ولا من ماء ولا مأوى ولا صحة ولا تعليم، ولا زال يعاني من الفساد والهدر والمديونية العامة، ولا زالت النفايات مكوّمة في الطرقات من دون حلّ إلا على الطريقة التحاصصية الطائفية، لكن هناك الكثير من المنظرين النيوليبراليين ومن اليسار المشوّه وأصحاب الرأي وركائز وعكاكيز سفارات المستعمرين الغربيين، يصولون ويجولون في شوارع بيروت وبغداد والقاهرة يسوّقون ويروّجون لضرورة تغيير الأنظمة الاستبدادية والقومية التي مضى عليها الزمن، ولم تعد صالحة من وجهة نظرهم الفوضوية. هؤلاء الجهابذة الذين تفرْنسوا أو تأمْركوا تناسوا مثلاً أنّ دولة مثل سورية لا يمكن شطبها عن الخارطة الجيوسياسية العالمية، ودولة مثل إيران لا يمكن إسقاط نظامها وجعلها تابعة على الطريقة اللبنانية أو الأردنية أو المصرية، إذا أسأنا التقدير…
قولوا ما شئتم بحق هذه النظم القومية والتقدمية وحول كيفية مواجهتها للمشاريع الاستعمارية وللاستهداف المنظم لشعوبها ولنسيجها الاجتماعي ولنهْب ثرواتها وخيراتها، لكن لن يستوي ولن يستقرّ النظام الإقليمي والدولي من دون هذه الدول المحمّلة بثقل حضاري وسياسي واجتماعي وببناء اقتصادي إنتاجي ذاتي وحقيقي. فهذه حقائق تاريخية منذ بدء التكوين الى اليوم، فهي ليست دول مارقة أو دول الصدفة في مفهوم إنشاء الدول القومية وإليكم الدليل الساطع على كلّ ما تقدّم…
التسليم الدولي والإقليمي أصبح شبه تامّ وناجز بقوة الدولة السورية بعد ثماني سنوات من الهجمة الإمبريالية الاستعمارية عليها سواء بطريقة مباشرة عبر القوة العسكرية الأميركية والفرنسية والبريطانية والتركية، أو غير المباشرة عبر الأدوات التكفيرية وقوى الإرهاب و«إسرائيل». فها هي الدولة العربية السورية توسّع من رقعة امتداداتها من الوسط السوري والغوطة إلى الجنوب ودرعا وإمساك معبر نصيب الحدودي مع الأردن وستكون الوجهة بعدها إلى الشمال والشمال الشرقي، صحيح أنّها جرت بإشراف ومساعدة روسية ومع الحلفاء، لكن هذا يؤكد حضور الدولة السورية وقوة فرض السيادة السورية التي تجسّدت بالمصالحات وتسوية أوضاع المسلحين ولم يتمّ الإخلال بأيّ اتفاق منذ إجراء هذه المصالحات، ومنذ بدء عودة مكوّنات الشعب السوري بمختلف مكوناته الى سورية وحضن الدولة. وهذا يدلنا بوضوح إلى الفهم السطحي لمغامري العصر وليبرالييه الذين راهنوا على سقوط سورية وتفتيتها أشلاء خدمة للمستعمر الصهيوني ومن خلفه الأميركي…
بالحديث عن إيران وبعد تصعيد الخطاب الترامبي وتضييق الخناق المالي والنفطي عليها في اعتقاده أنه قادر على إسقاطها من الداخل، وهي رؤية أيضاً سطحية وساذجة لأن القوة الذاتية والذهنية لقدرة الشعب الإيراني تفوق كلّ الرهان وكلّ المغامرات، جاءت التحليلات بعد حديث الرئيس روحاني عن إغلاق مضيق هرمز الذي يمرّ عبره 40 من نفط العالم وتأكيد قادة الحرس الثوري والشدّ على يد الرئيس وتأييده قراره، وكثرت التنبّؤات عن مواجهة إيرانية أميركية مباشرة وعالمية كذلك، متناسين أنّ عالم اليوم هو غير ما كان منذ أربعين سنة مضت أيّ منذ بدء الحصار الغربي على إيران، ولم ينفع إلى اليوم هذا الحصار الظالم أصلاً على الشعب الإيراني الذي اختار نظامَه السياسي بملء إرادته…
إيران تسبق الأميركي الى المواجهة ولا تنتظر الفعل الاستعماري لتجابهه بردّ فعل. وهنا تكمن أهمية دول المواجهة، فذهبت بقوة الى التهديد بأعلى منسوب من الخطر العالمي أيّ إغلاق مضيق هرمز، حتى لا يتسنّى لترامب القيام بتحشيد واصطفاف مقابل، مستفيدة من وقوف كلّ من الهند والصين وروسيا إلى جانبها، ومن حال اللاموقف الأوروبي القابض على جمر خسائر شركاته الاقتصادية والاستثمارية، وبالتالي لا يمكن لإيران أن تنتظر التفاف الحبل على عنقها وشدّه أكثر بحيث قد لا تكون قادرة على الدفاع عن نفسها، فذهاب إيران الى هذا النوع من التصعيد في مرور ناقلات النفط العالمية يثير المخاوف ويحصّن موقفها وموقف حلفائها ويمنع أيّ مغامرات استعمارية لحصارها حتى لا تضعف ويصْعب عليها بعدها الدفاع عن نفسها بالشكل المطلوب…
الواقع الدولي المأزوم بالطريقة الأميركية الاستعمارية جابهته دول محور المقاومة في سورية والعراق وإيران وروسيا مستوعبين بكلّ حصافة وهدوء ردات الفعل الهمجية لقوى الإرهاب وداعميها، متحضّرين لأسوأ السيناريوات وأخطرها… ولمن ينتقد ويحاجج على ما جرى ويجري: فهل لكم رأي مغاير وطريقة أخرى في المواجهة؟ ضعوها أمام صنّاع القرار ويقيناً سيأخذون بها… وإلا فلتصمتوا رجاءً وكفانا جلداً للذات…
أستاذ العلوم السياسية والعلاقات الدولية