معركة الجنوب السوري وترسيخ استراتيجية النصر
مهران نزار غطروف
لن يخامر الشك أحداً بأنّ من يقف وراء هذه الحرب في سورية منذ اندلاعها، آخر شيء يعنيه، أو يمكن أن يلجأ له، هو الجلوس لطاولة مفاوضات، أو دعم حلول سياسية، تحت أيّ عنوان كان، إنساني أو غيره.
ترسّخ ذلك في مفاصل عدة هامة من عمر هذه الحرب، بشكل خاص، في كبريات المعارك الاستراتيجية، والتي تصلح تسميتها بمعارك كسر عظم حقيقية، أنجزتها وربحتها القيادة السورية وحلفاؤها، كما تشير الوقائع الميدانية.
أخيراً، وكما كان متوقعاً، لم يدم الصمت طويلاً، وانطلقت معركة تحرير الجنوب السوري من الإرهاب، ليغدو كلّ ما سيق قبل انطلاقها، من محاولات ومناورات، لإيجاد صيغ مشتركة وتسويات، تضمن عدم الوصول لزحف قوات الجيش السوري باتجاه الجنوب، هباء منثوراً.
وبعد ما يقارب الأسبوعين من انطلاق عملية التحرير، التي بدأها الجيش السوري في محافظة درعا وأريافها، وبعد الكمّ الكبير من القرى والبلدات التي دخلها الجيش، تصالحياً في غالبيتها، ونارياً في بعضها، حيث جاءت النتائج عكسية تماماً، للكثيرين ممن عوّلوا على الدعم الأميركي الإسرائيلي المتوقّع، للمجاميع الإرهابية في تلك المناطق.
هناك في الواقع ما يثير الاهتمام، ويفتح الباب حول جملة تساؤلات هامة أمام كلّ الحاصل جنوباً، وعلى وجه الخصوص مجريات وسير المعركة بحدّ ذاتها، منذ انطلاقها حتى اللحظة.
فمشاهد جموع المدنيين، وزحفهم باتجاه نقاط وحواجز الجيش السوري، تهليلاً وترحيباً بجيش بلادهم، في صورة لا يمكن لأحد أن ينكرها، أو يدحضها، أو يدّعي فبركتها، بعد كلّ ما تمّ تسويقه لشيطنة هذا الجيش، وبكافة السبل والوسائل الممكنة، على مدى ثماني سنوات، من قبل أطراف العدوان. مَن يشاهد كلّ ذلك، كيف له أن يفهم إلا أمراً واحداً، مفاده أنّ الدولة السورية انتصرت استراتيجياً على كلّ من ناصبها العداء…!
حيث إنّ حجم التهويل الذي سبق المعركة من أطراف العدوان، دفع الجميع للقول إنّ هذه المعركة قد تفتح أبواب جهنم على المنطقة برمّتها، ما يدفع الأمور لحدّ الوصول لحرب أقلّ ما يمكن القول عنها، إنها حربٌ عالمية بحدود إقليمية، في ظاهرها «إسرائيلية» سورية، وفي عمقها روسية أميركية.
لكن المفاجأة كانت، حيث إنّ الأميركي كان أول مَن سحب البساط من تحت أقدام جماعاته المسلحة، معلناً أنه لا يجب أن تتوقع هذه الجماعات الحصول على أيّ دعم عسكري أميركي محتمل، ليتبعه في ذلك كلّ من الإسرائيلي، الحالم بعودة الأمور لطبيعتها ما قبل آذار/ مارس عام 2011، بما في ذلك عدم الانتشار العسكري «المزعوم» لكلّ من إيران وحزب الله على حدوده، والأردني المتذرّع بعدم قدرته على استيعاب لاجئين جدد، في ظلّ العملية التي يقوم بها الجيش السوري وحلفاؤه جنوباً.
العارف بالسياسة الأميركية يعلم جيداً أنه ليس في الأمر ما يفاجئ، فأميركا لا تزال دولة عظمى تفهم التوازنات الدولية الحاصلة، بغضّ النظر عن ردود تُساق بغباء من هنا أو هناك، وأنّ التخلي عن مرتزقتها هو عنوان وسمة طالما تحلّت بها السياسات الأميركية تاريخياً، في حق كلّ من استخدمتهم ضدّ شعوبهم وأوطانهم، وكذلك الحال بالنسبة لكلّ من حلفائها، فلن يكونوا أفضل حالاً منها، على اعتبارها راسمة سياساتهم وتحركاتهم، وأحلامهم المنشودة…
ليظهر أنّ الحقيقة الوحيدة الآن، والحاكمة لمعادلة معركة الجنوب السوري، تكمن في القدرة التي أبدتها الدولة السورية وحلفاؤها في إدارة هذه المعركة – كما كلّ المعارك المفصلية السابقة – من حيث خلط جميع الأوراق في وجه أرباب العدوان ومتطرفيهم، ما يعني بالضرورة نعي ثماني سنوات من العمل الممنهج والدؤوب من قبلهم، لسلخ هذا الجنوب، وجعله خنجراً طاعناً في جسد وطنه الأمّ، عبر تشكيل ميليشيات لحدية، أميركية الهوى، «إسرائيلية» التبعية.
لتسقط بذلك آخر ورقة في هذه الحرب، المتضمّنة إضعاف الدولة السورية، عبر بوابتها الجنوبية الغربية، فتعود بذلك مسألة الصراع العربي – الإسرائيلي إلى الواجهة، ومجدّداً من البوابة السورية، قلب محور المقاومة وعمقه الاستراتيجي، مع تغيير جذري وهامّ في المرحلة المقبلة، عنوانه الرئيس: هل يكون الجولان السوري المحتلّ، إحدى وجهات الجيش السوري المقبلة؟
خاصة أنّ كلّ التصريحات السورية عالية المستوى، طالما أكدت أنّ الجيش السوري مستمرّ في عملياته، حتى تحرير آخر شبر من الأرض السورية من رجس الإرهاب.
الرئيس بشار الأسد، وخلال مقابلة له، أجرتها معه صحيفة «ميل أون صنداي» البريطانية، نشرت صباح العاشر من شهر تموز/ يونيو الفائت، أكد في معرض إجابته عن سؤال بهذا الخصوص، أنّ ما يجعل الأمر «معقداً» هو «التدخل الخارجي»، حيث أنه كلما حققت الدولة السورية مزيداً من التقدّم «سياسياً وعسكرياً»، حاول الغرب ممثلاً بأميركا وبريطانيا وفرنسا، إطالة أمد «الصراع» وجعل الحلّ «أبعد عن متناول السوريين»، وختم الأسد إجابته بالقول إنه رغم ذلك «فإننا نغلق هذه الفجوة بين الحالتين».
ما يفسّر ربما سرعة الإنجاز التي نشهدها الآن في درعا شرقاً وغرباً وجنوباً، حيث إنّ التخلي الحاصل، وسقوط الدعم شبه الكامل للمسلحين، بالموازاة مع إطلاق معركة تحرير الجنوب بغضّ النظر عن التهديد والوعيد، وصولاً لسقوط محاولة أممية جديدة، مساء الخامس من تموز/ يوليو الحالي، في تبني بيان صحافي حول الوضع في جنوب غرب سورية، بسبب عدم إجماع أعضاء مجلس الأمن، حيث أكد مندوب روسيا الدائم لدى الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا للصحافيين ذلك، بقوله: «إنهم يركزون على وقف الأعمال القتالية، ونحن نركّز على محاربة الإرهابيين».
فالواضح حتى الآن، أنّ الشرق الأوسط لا يزال ساحة مغلقة بين الهدوء والجنون، والواضح أيضاً أنّ المتضرّر من محاربة الإرهاب، هو مَن يسعى لبقاء سورية ساحة حرب مفتوحة، لكن الأكثر وضوحاً أنّ سورية التي قاومت كلّ هذه السنوات، دفاعاً عن سيادتها، وحقها في استقلالية قرارها، مستمرة ولن تخاف في هذا الحق لومة لائم، مهما طال أمد هذا الصراع…