«باب الليل»… تعويض لذات غائبة أم تعرية؟
لوريس فرح
«كلّ شيء يحدث في الحمّام، حمّام المقهى بالطبع»… هكذا استهلّ وحيد الطويلة روايته «باب الليل»، بمواربة شبه واضحة ليشي بالحكاية قبل أن تبدأ… فلطالما كان الليل، كدلالة لإثارة الصخب وجمع الأضداد، به كثف الكاتب مفردات الرواية جنباً إلى جنب ليسير بنا نحو كل شيء.
كلّ شيء يحدث في حمّام المقهى، الذي كان ولا يزال يستمدّ حضوره وديمومته من بقايا أرواح تالفة، تبحث عن فتات عالق بهالة جسد ينفتح نحو «باب البنات» الذي هو أصل الحكاية ومبتغى أبطالها…
لم يكتف وحيد الطويلة بكناية حمّام المقهى ليستعرض لنا ما تقدّم وما تأخر ممّا ادخره في جعبته، بل جرّنا بالغواية التي أرادها نحو الشارع الجانبي المتفرّع، هناك حيث الربوة التي عليك أن تعتليها عبر سهل وتهبط منها إلى أرضية منبسطة لتصل… إلى أين؟ لعلّ الطويلة، ولست أدري أن تقصّد أن نصل إلى المكان الجغرافي للمرويّة أم أنه تلطّى وراء هذه السهول والروابي لينزاح بنا نحو جغرافية أخرى، يتلمّس القارئ استعاراتها في كلّ منعطفاتها الموحية بفاعلية الحبر الساخن على مرجل اللذة…
تلك «اللذة» أشعل الطويلة جذوتها في «باب الفتح» والذي تجاوز تواً باب البنات، ليأتي سؤال القارئ عن تراتبية تلك الأبواب وإشاراتها بالترافد بدءاً من باب البنات والفتح ثم لاحقاً باب الهوى، أي أين سيأخذنا وحيد الطويلة؟ بعدما أعلى من وتيرة السرد وشرع له كلّ الاحتمالات دفعة واحدة، لتتوه كقراء من خارج حصن الرواية في كلّ داخل وداخلة وخارج وخارجة، هناك حيث «الجسد سيد اللعبة واللون الخمري بوابته… الدنيا هنا مقفولة»، بحسب قوله. وهذا يعني أن عدّة اللعبة قد اكتملت بعد استحضر لها الجميع ليسيروا دفّة قيادها، من الفلسطيني واللبناني والسوري والإيطالي والتونسي وآخرون… ويرصدهم كأسرى في خانة الانتظار… حيث الجسد معادله المال الذي يفتح الراوي من خلاله «باب الهوى»… على نحو غير متوقّع من الدلالة التي يحملها الاسم «باب الهوى»، يقبض القارئ تماماً على أن فخاً ما نصب له، كمكيدة يجرّه من خلالها إلى باب السياسة العالي الذي استهله بالحديث عن القضية الفلسطينية كونها مفتاح لكل حديث سياسي، حيث جعل من «أبو شندي» كممثل شرعي عنها، والذي أدرك بعد نضال مديد أن كل شيء «يحتاج إلى مومسات»، «حتى الثورات»، وأن الثورة الفلسطينية الحقيقية على حدّ زعمه: بدأت من سوق المومسات.
تلك الشخصية التي شكّلت مفصلاً رئيساً في المرويّة، والتي اختصرت بها قضية فلسطين كباقي القضايا الأخرى التي لعب دورها آخرين، ليأت إلى جني ثمار النهايات بعد اتفاقيات السلام مع «إسرائيل»، ليتحوّل من بطل إلى عالة، ميدانه الأوحد حمام المقهى، يهيم على وجهه في بلاد لا تشبهه، موجزاً مسيرته الظافرة بالقول: المومسات يحصلن على مقابل… أما نحن فلا.
في باب الأقواس يكشف الكاتب الغطاء عن خوائنا، بعد أن وضع كلّ شخوص المرويّة تحت المجهر، الشخوص ذاتهم ترميز لبقع جغرافية معلومة، حيث يصوّر وبكلّ وضوح عقدة نقصنا كعرب، ومن أين تؤكل كتف سقوطنا، بدلالة قوله: إن أردت أن تشرح أية نظرية صعبة الفهم لشيخ عربي ما، فقط أسقطها على إيحاءات جنسية تخصّ جسد المرأة ودع الباقي عليه…
ومنه، أي باب الأقواس، يقيس الحكاية وقت وقف بباب نعيمة معترفاً وبتجرّد بأنّها تشبهه تماماً كمناضل، حيث كان يفتعل الثورات، كذلك هي مناضلة في قضايا الجسد، والحقيقة هنا، بحسب زعمه بأن كل الثورات التي قاموا بها خسرت على عكس نعيمة تماماً.
عند باب النحل تنفتح الإشارات على أقصاها، كدلالة للنحل الذي يجعلنا أمام مفترقين متضادين، ما بين اللسع والعسل، كمحور أتخذه لتعرية المرأة في لحظات اشتهائها، وهنا برع في ضخّ صور غاوية حدّ التلذّذ.
ثمة نقلة أقرب إلى السقوط على حين غفلة من أعلى اللذة إلى متاهات الوجع، ولست أدري إن كانت تلك هي اللسعة التي أرادتها بعد «لهط» العسل، عندما غاص بنا في غياهب الثورات والتحشيد لها والذي ينتهي بالمسيرات التي نطفئ من خلالها غضبنا، وكأقل خسارة نعوضها بانتصارات الفحولة التي تدور في المقهى.
عند باب الجسد، وقف الكاتب على تماس رهيب مع شخصيات روايته، واستطاع الإيغال إلى عمقها ليقف مجدداً أمام قناعتهم النهائية والتي تشي بأن نضالهم لم يتوقف، إنما تبدّلت آلياته، من ثورات حقيقية إلى ثورات جسد، وهو مفصّل الانكسار المخيف. ليكون السؤال في الختام، هل كانت كل انفعالات وحيد الطويلة هي محاولة لاسترجاع «ذات» مفقودة؟
لماذا لم يذهب وحيد الطويلة بنا نحو خاتمة مفتوحة؟
كاتبة سورية/ فيينا