حداثتنا العربيّة… ماذا تبقّى منها؟

د. مسعود ضاهر

سبقت النهضةُ العربيّة في مصر النهضةَ اليابانيّة بعقود عدّة، وكانت نموذجاً يُحتذى لبعض متنوّريها. وكُتبت دراسات علميّة كثيرة حول إشكاليّة الحداثة والتحديث في كلٍّ من اليابان والدول العربيّة. فقد كانت مصر في أواسط القرن التاسع عشر أكثر تطوّراً في مجالات عدّة من اليابان التي كانت تعيش نوعاً من العزلة القسريّة إلى أن أجبرتها السفن الأميركيّة السوداء بقيادة الكومندور بيري على فتح أبوابها أمام الملاحة الدوليّة عام 1853 وتوقيع اتّفاقيّات مُذلّة بحقّ اليابان واليابانيّين في تلك الفترة.

وفي زمن الانتفاضات العربيّة المأزومة والتدخّل العسكري الخارجي المُباشر لإعادة تقسيم منطقة الشرق الأوسط، باتت إشكاليّة الحداثة والتحديث في العالم العربي ترتدي أهمّية استثنائيّة لأنّها ترسم آفاق المنطقة العربيّة بأسرها.

لذا تحتاج إشكاليّة الحداثة المُستدامة في العالم العربي إلى كثير من الجرأة والتعمّق في مُعالجة مشكلات التحديث الفاشل والمستمرّ في غالبيّة الدول العربيّة. وهذا ما قامت به جامعة القاهرة لمناسبة افتتاح «المركز العلمي للدراسات اليابانيّة» في رحابها. وقد أتيحت لي الفرصة للمشاركة في المؤتمر الدولي الذي نظّمه مركز اللّغة اليابانيّة وآدابها في جامعة القاهرة بالتعاون مع جامعات يابانيّة تحت عنوان «إعادة تقييم تجربة الحداثة والتحديث فى المجتمعات غير الغربيّة: النموذج الياباني والنموذج العربي»، وذلك خلال يومَيْ 15 و16 تمّوز 2017.

حضر المؤتمر أكثر من ثلاثين باحثاً يابانيّاً، معظمهم من جامعة «كورومي» في مقاطعة كيوشو، ومن جامعة «هيروشيما» وجامعات يابانيّة أخرى، إلى جانب حشد من الباحثين المصريّين والعرب المهتمّين بقضايا التحديث الرّاهنة في اليابان، والعالَم العربي، وتركيا.

تناولت محاوِر المؤتمر موضوعات عدّة أبرزها: «لماذا نجحت التجربة اليابانيّة في الحداثة والتحديث، بينما أخفقت التجربة العربيّة؟»، و«الحداثة والقضايا الفكريّة والاجتماعيّة والسياسيّة والأفكار والمفاهيم الحديثة: تناقضٌ أم تناغمٌ»، و«اليابان ما بين الأصالة والمُعاصرة»، و«التعليم الحديث في اليابان»، و«الأدب الحديث والمُعاصِر في اليابان ومصر»، و«الحداثة والقضايا اللّغويّة والثقافيّة»، فضلاً عن موضوعات أخرى في مجال العلوم الإنسانيّة، والفنّية، واللّغويّة، والإعلاميّة وغيرها. وبدا واضحاً أنّ الغاية الأساسيّة من تأسيس «المركز العِلمي للدراسات اليابانيّة» في جامعة القاهرة تتمحور حول كيفيّة الانتقال من مرحلة نشر اللّغة اليابانيّة، التي بدأها قسم اللّغة اليابانيّة في جامعة القاهرة منذ تأسيسه في العام 1947، إلى مرحلة البحث العِلمي المعمّق للإستفادة العلميّة من التجربة اليابانيّة الفريدة في الحداثة والتحديث في مصر وباقي الدول العربيّة وتركيا، على غرار ما قامت به ماليزيا ودول آسيويّة أخرى.

تضمَّن المؤتمر موضوعات جديدة لم تُطرح في مؤتمرات أكاديميّة سابقة، حيث كانت الأبحاث تتكرّر، ومعها توصيات كثيرة لم تُنفَّذ. وقد عالجت بعض أبحاث هذا المؤتمر إشكاليّة الحداثة والتحديث في الدول العربيّة من منظور عقلاني، بهدف تجديد المقولات النظريّة السائدة بين المثقّفين العرب عن نهضة كلٍّ من اليابان والدول العربيّة كنموذجَين مُتمايزَين لا ينتميان إلى ثقافة الغرب حتى لحظة الاحتكاك بها. بيد أنّ قلّة من الأبحاث التي قدِّمت إلى المؤتمر العربي ـ الياباني الجديد التزمت فعلاً بأهدافه المُعلَنة. وأبرز تلك الأبحاث: «لماذا فشل مشروع الحداثة العربيّة؟»، و«هل نجحت اليابان في إقامة نمط غربي أم مغاير للحداثة الغربيّة؟ فحظي هذان البحثان بما يستحقّان من نقاش عِلمي نظراً إلى خطورة المقولة النظريّة التي تُخرج الحداثة اليابانيّة من إطارها التاريخي بوصفها حداثة سليمة لتُلحقها بالنموذج الغربي وتعتبرها مُلحقاً له. فقد نجحت اليابان حيث فشل الغرب في إقامة التوازن بين الأصالة والمُعاصرة. لكنّ مأزق نهضة اليابان الأولى يجد تفسيره في أنّ حركة التحديث الأولى حوَّلت اليابان إلى دولة إمبرياليّة مارَست الهَيمنة العسكريّة بصورة مؤلِمة تركت آثاراً سلبيّة على علاقاتها بالدول والشعوب الآسيويّة التي خضعت لاستعمارها. كما أنّ صدامها الدمويّ مع الأميركيّين في بيرل هاربر عرَّضها لحرب مدمِّرة استخدم فيها الأميركيّون القنابل الذرّية بصورة همجيّة، وللمرّة الأولى في تاريخ الحروب الدوليّة، لإجبار اليابان على الاستسلام. فكان على الأُمم المتّحدة التحذير من مخاطر استخدام السلاح النووي وأسلحة التدمير الشامل في الحروب، لأنّها تدمّر المجتمعات البشريّة بأسرها. وكان على اليابان تصويب مسار حداثتها لبناء نهضة جديدة على قاعدة القوّة الناعمة وليس القوّة العسكريّة، وتوجيه النهضة الثانية لتحقيق التنمية البشريّة والاقتصاديّة المُستدامَة في اليايان وبناء المجتمع الديموقراطي الياباني.

على الجانب العربي، تركّز مقولات الحداثة المُستدامَة على دور مجتمع المعرفة وثقافة التغيير الديموقراطي في بناء مجتمع عربي موحّد وقادر على مُواجَهة تحدّيات العَولَمة. ويشكِّل البحث العِلمي حجر الزاوية في بناء مجتمع المعرفة العربي. والمجتمعات العربيّة بأمسّ الحاجة إلى تجاوز التحديث المُفضي إلى التبعيّة والتغريب لبناء حداثة سليمة تؤسِّس لتنمية بشريّة واقتصاديّة مُستدامَة في جميع الدول العربيّة. ومع أنّ المجتمعات العربيّة مُتباينة جداً في تاريخها، ونُظمها السياسيّة المتنوّعة، إلّا أنّها مُتقاربة في سيرورتها، بسبب عجزها عن إقامة مجتمع المعرفة العربي بخصائص عربيّة، وبأدمغة عربيّة. وهي مدعوَّة إلى دراسة الحداثة المُستدامَة في الدول التي جمعت بين العلوم العصريّة والتكنولوجيا المتطوّرة مع الحفاظ على كلّ ما هو إيجابي في التراث التقليدي، وإقامة التوازن بين الأصالة والمُعاصرة.

اعتمدت الحداثة المُستدامَة مبدأ التوازن والانسجام بين الإنسان والطبيعة. ويشكّل التراث الإنساني العريق قاعدة صلبة لحداثة سليمة ومُستدامَة تمنع انحراف حركة التحديث نحو التبعيّة والاستلاب.

تراث العرب الذهبيّ والمستقبل

تميّزت الدول التي نجحت في بناء حداثة سليمة وتنمية مُستدامَة بالانفتاح المدروس على الثقافات العالميّة، واحترام الثقافات الأخرى، ومنها الثقافة العربيّة، وتقدير دَورها في بناء الحضارة الإنسانيّة. وباتت النخب العربيّة اليوم على قناعة تامّة بأنّ تراث العرب الذهبيّ لا يُمكن توظيفه بصورة عقلانيّة في بناء مستقبل عربي أفضل. وهو موقف سليم لتجديد النهضة العربيّة على قاعدة التوازن بين الأصالة والمُعاصرة. فالشعوب العربيّة بحاجة ماسّة إلى مؤسسات عصرية لبناء حداثة مُستدامَة في مُواجَهة التحدّي الإمبريالي الغربي المُعولم الذي يُهدِّد تراثها الثقافي الإنساني. وهو يعيق نشر مقولات ثقافيّة عربيّة جديدة تمنع تفجير الدول العربيّة القائمة عبر نزاعات داخليّة تساندها قوى إقليميّة ودوليّة تعمل على تفكيك المنطقة العربيّة تمهيداً لقيام الشرق الأوسط الجديد برعاية أميركيّة ـ «إسرائيليّة» مُشترَكة.

يَكمن مأزق بناء نهضةٍ عربيّةٍ قادرة اليوم على مواجَهة تحدّيات العَولمة في أنّ القادة العرب لم يتوافقوا على تنفيذ أيّ مشروع نهضويّ، على الرغم من كثرة المشاريع التي تدعو إلى التضامن، والتكامل، والوحدة العربيّة. واقتبست النّخب الثقافيّة العربيّة مقولات التحديث الغربيّة من دون أن تستفيد منها في بناء حداثة سليمة. كما أنّ التعاون الأكاديمي والثقافي والشبابي العربي بقي ضعيفاً للغاية، مقارنةً بالحضور الطّاغي للثقافة الغربيّة على النخب العربيّة. وتتحكّم المؤسّسات السياسيّة والماليّة والإعلاميّة الغربيّة بالنُّظم الإداريّة في كثير من الدول العربيّة. ولم يستنبط المتنوّرون العرب أيّ منظومة فكريّة عربيّة قادرة على استنهاض المجتمعات العربيّة التي لا تزال أسيرة عصبيّات سياسيّة تتبنّى التقاليد القبليّة والطائفيّة والعرقيّة التي تمنع قيام الدولة العربيّة الحديثة. ولم تولِ النّخب العربيّة الاهتمام الكافي لدراسة أسباب نجاح الحداثة في الغرب وفي الدول الآسيويّة التي بنت حداثة مُستدامَة انطلاقاً من المقولات العقلانيّة في ثقافاتها الأصليّة. والمتنوّرون العرب مدعوّون اليوم إلى الإقلاع عن ترداد مقولات تراثيّة قديمة أسَّست «لهويّات قاتلة « بحسب توصيف الروائي أمين معلوف، تحت ستار الحفاظ على الأصالة، أو التمسّك بمقولات استشراقيّة لا تُقيم وزناً للتضحيات الكبيرة التي قدّمتها الشعوب العربيّة في سعيها للتحرّر من التبعيّة للخارج.

نخلص إلى القول إنّ الحداثة المُستدامَة ليست تقليداً للحداثة الغربيّة أو الشرقيّة، بل تستمدّ صدقيّتها من حماية التبدّلات الجذريّة الإيجابيّة التي أدخلتها حركات التحرّر العربيّة على المجتمعات العربيّة وتطويرها. وهناك ضرورة ملحّة للتمييز بين مكوّنات الحداثة المُستدامَة ومقولات التحديث العربي في أرقى تجلّياتها، من خلال تجربة محمّد علي في القرن التاسع عشر، والتي عجزت عن تحويل التحديث إلى حداثة مُستدامة في المنطقة العربيّة. أمّا المقارنة بين مظاهر التحديث السائدة اليوم في بعض الدول العربيّة، والحداثة المستدامة في الدول الأوروبيّة والأميركيّة والآسيويّة المتطوّرة فلَم تعُد مُمكنة. ولا تشكِّل مقولات القوّة الناعمة نموذجاً يحتذى للدول العربيّة في صراعها المتفاقم مع الدول الكبرى والشركات الاحتكاريّة التي تُشعِل حروباً متواصلة لاقتسام الموارد الطبيعيّة وتكبيل الإرداة العربيّة. ولن تُبنى الحداثة العربيّة المُستدامَة على الاقتباس السهل لمقولاتٍ غربيّة أو شرقيّة، بل ستكون نِتاج النّخبة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة العربيّة، ولخدمة الشعوب العربيّة بالدرجة الأولى.

وذلك يتطلّب سياسة عربيّة فاعِلة في مواجَهة مشاريع التجزئة والتقسيم التي تهدِّد بقاء جميع الدول العربيّة ومستقبل شعوبها. والمقارَنة بين حداثة مُستدامَة وتحديث فاشل تقودها أنظمة عربيّة تسلّطية لا تُثمر مقولات عِلميّة رصينة. ولا بدّ من القيام بخطوات عقلانيّة مدروسة لوضع مقولات الحداثة المستدامة على جدول أعمال النخب السياسيّة والثقافيّة والتربويّة والاقتصاديّة العربيّة لإطلاق مشروع نهضوي عربي جديد لمواجَهة تحدّيات الإرهاب المُعولم.

مؤرّخ وكاتب من لبنان

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى