«بلاد النور» لأحمد طيّ… كي يكون الحق منتصراً لا بد أن يكون قويّاً
نسرين الرجب
يتوجّه المؤلف أحمد طيّ في روايته القصيرة «بلاد النور»، إلى المراهقين والشباب والكبار، وبذلك يُعلن أن روايته ليست إنتاجاً نخبويّاً، بل هي نتاج أدبيّ قابل للفهم والتداول، والأقلَمة مع جميع مستويات التلقّي، لذا فهو يحرص على توجيه رسالته بعناية متقصّداً ألّا يدع ثغرة قد تختلط على قارئيه، يراعي فئة الشباب الصغير في السنّ ويحرص على تخصيب دلالاته بالخيال وعلى تنقيحها بالأفكار المُرتّبة ترتيبا جاداً وعارفاً حقيقة توجهه.
يُتقن المؤلّف حبكته، مع اعتماد تقنيات تبتعد بالحكي عن زمنه ومكانه الحالي، كـ الاسترجاع، المونولوج، توَقف الزمن القصصي، التفاوت بين زمن الحكاية وزمن السرد.. ، ويحضُر عنصر التشويق كمحرّك لوتيرة الأحداث، فالمؤلف كراوٍ أوّل ينتشل أناه من الأحداث، بحيث لا ينتمي إلى كون القصة بل إلى زمن السرد، ويمنح قلمه أحقيّة الكلام على الحادثة وعلى الشخصيّات التي تنجزها، فالشخصيات التي يبتدعها تنتمي إلى زمن الحدث، فاعلة فيه، والتبئير داخلي حيث تنحصر معلومات الراوي بما تقدمه الشخصيّة عن نفسها من خلال المونولوج، مع تحوّل الشخصيَة الى بؤرة خالصة.
في دلالة بلاد النور، وأسطرة الحكاية
ترتبط دلالات النور بالنهضة، وبفكرة الثورة والخروج من ظلمات الجهل والظلم إلى نور المعرفة والعدل، والكاتب يجعل البلاد فوق الجميع، ما يعني أنّ ما يرويه في خدمة الموضوع الأساس وهو تهيئة البلاد، أيّ بلاد قد آن أوان تحرُّرها لاستقبال النور، وهو لذلك لم يُحدّد موقعاً جغرافياً أو تاريخيّاً معيّناً.
يحافظ المؤلف على خاصيَة الإدهاش في مرويته، فهو يجيد اختيار الزمان والمكان، على طريقة كان يا ما كان، حتى ليبدو أننا أمام حكاية من الزمن الأسطوري، مع الحفاظ على واقعيّة الحدث، فلا وجود لما هو خارق ولامعقول على المدى المنظور، ولكن هناك ما يتقاطع مع خصائص الأسطرة بشكل بيّن.
الرواية تحصر أحداثها في مكان واحد هو «بلاد النور» على ما يفتحه ذلك من نوافذ على أمكنة ذهنية تتحدد بحسب استلهامات المتلّقي، يؤثّث المؤلف المكان والزمان عبر الوصف فيستلهم المقتنيات من قصور الملوك والأمراء حيث البلاد تنعم بخيرات الطبيعة وتتحصّن بسلطة الحاكم والجيوش، وحيث السيف والترس هما أسلحة الدفاع، والحصان هو وسيلة الانتقال من مكان إلى آخر، ويُضفي على ما ورد صبغة أسطوريّة تظهر في انتقاء الأسماء، والاحتجاج بالأسطورة كمُعطى مُتحقّق، كما في قصة «نهر الراعي«، وكما في أحداث ولادة طفلَيْ «إستيرا» التي قد تتقاطع مع مروياتٍ أسطوريّة، يوضح المؤلف أنّه بعد أن قرّر أسطرة روايته، عمل على منح شخوصه أسماء ذات دلالات، فـ«تمّوز» يعني الشجاعة والإقدام البطولة والتضحية، و«عشتار» و«استيرا» الحبّ والجمال والخصب، و «آنو» الحكمة.
مخطوطة لنصّ مسرحيّ
الصمت غير حاضر في «بلاد النور»، فالسرد فيها ينساب لا متناهياً، وإذ أوقف عجلة الحكي فلكي يُفسح مجالاً لتخيُل المَشاهد، فيوضّح المؤلف أنه يحرص على الجمع بين الخيالي والواقعي ليقول للمتلقي أن بعض الخيال قابل للتحقّق.
يعتمد الشكل المشهدي في تقديم أحداث مرويته على نحو مباشر مع الايحاء بغياب الراوي في عدّة مواقف سرديّة، فيوغل في المشهديّات، ويؤدي الوصف دوراً مهماً في الرواية، فقد تمّ توظيفه بشكل مرن وفاعل، فهو وصف يؤطّر الحدث ويتمعّن في كشف جوانبه الخفيّة، تتحرك فيه الشخصيّات بشكل فاعل وتتحاور في ما بينها وبين نفسها، وبينها والآخر، تعبّر عنها بحرّية من دون قيود، تعبير ينحصر في مُجمله ضمن إطارَيْ الخير والشر، فالراوي ليس شريكاً في الأحداث، رؤيته تتزامن مع المواقف التي تواجهها الشخصيّات، بحيث يتم صوغ المرويّ من خلال وعي الشخصيّة، وعياً لا تتجاوز فيه حدود ذاتها، وهو إذ يتدخل ليستنطقها ويوجه بوصلتها فلكي تسير طريقها من غير تردّد أو وجل.
يُشير المؤلف أنّه قد بدأ بكتابة الرواية على أنّها نصّ مسرحي في العام 2005، وقد حدثت ظروف أوْقّفته عن كتابتها في الفصول الأولى، فضاعت مسوَداته بفعل التنقّل من مكان إلى آخر، قبل أن يعثر على مسودة المخطوطة في العام 2015، فشاء في أن يُنهيها كنصّ روائيّ، مع حفاظه على خصائص تحوّله إلى نصّ مسرحيّ قابل للتمسرُح.
الثورة والزعيم
أبعاد الرواية لا تخفى عن ذهن المُتلقي، وهي تحوم حول موضوع الثورة وصناعة الزعيم الذي لا يأتي من قبيل الصدفة، بل يُهيّأ لقدومه بعد أن يتربّى على أسس الزعامة وقيم الفروسيّة، يوضح المؤلف أنه قد اختار بطل روايته بعناية، وقد منَحه كل ما يلزم ليكون البطل المُنتظر الّذي يُخلّص البلاد من غياهب الديجور، وقد سعى بفكرته لانتشال مفهوم المُنتظر والمخلّص من هالة القدسيّة المحاكة حوله في الأديان، فجعله بشريّاً من الناس وفيهم.
اختار نموذج البطل «تمّوز» مع ما يرتبط به اسمه من دلالات كثيفة، وقدّم له سائر الدعم، حتى في الحب أماتَ أخاه ليُنيله من قلب «عشتار»، فتمثّلت في بطله قيَم كثيرة، تتلاءم مع شخصه ولا تتعارض مع أفعاله وقدره، وقد خدم ذلك السرد إذ قلّص مساحة الحكي ليفسح المجال أمام مخيلة القارئ، ويُلبّي الحاجة للتفاؤل، وبذلك أعطى نموذج الزعيم المثالي الذي يعرف كل شيء وهو محيط بكل الأخبار، يُنازع موضوعات العدو والصديق، الحرب والسلم، ملحمة البطولة… .
يتعامل المؤلف بجدّية في سرد الأحداث وربطها، بحيث يستقبلها البالغ والراشد باهتمام فيما لو أمعن الفهم في تفاصيل المشهديَات وبخاصة في التنظير المنطقي لمفهوم الثورة، وكيفية الاشتغال عليه، وكوننا نُعايش زمن الثورات الشعبيّة الفاشلة في غالبيتها، ولذلك أسبابه المتعدّدة.
أظهر اجتماع «آنو» مع الفرسان، كيف تُصنع الثورات، فالمهام موزّعة على القادة ومنظّمة بعناية وسرّية بالغة، راح كل قائد يحكي عن عمله المنجز والمتقن التخطيط، وقد بدا واضحاً اكتمال عناصر الثورة، وهيكليّة التخطيط والتنظيم، وذلك يظهر في أقوال القادة وهم يصرّحون عن إنجازاتهم، وهنا نماذج من المصطلحات والمفاهيم التي تبيّن جهدهم ووحدة أهدافهم: سرية تنظيم الفدائيين ذوي المهمّات الخاصة، تجييش الشعب… صنع الترسانة… رسم خريطة للثورة والهجوم، قطع الطريق أمام الإمدادات للحكومة المتخاذلة، تدريبات قاسية في بلاد نائية… . في مكمن آخر، تحمل الرواية إشارة لفظيّة إلى أنّ دور المرأة كدور الرجل في الاستحقاقات الكبرى، موقف عبّر عنه تموز لعشتار وهو على أهُبة دخوله المرحلة الأخيرة من حربه عندما سألته عن دورها، على أن الحضور الأنثوي كان طفيفاً، غير فاعل في حقيقته مقارنة بفعاليّة الرجل، ومحفزّاً كجانب عاطفي وأمومي، فـ«استيرا» هي الأمّ الحاميَة، و«عشتار» هي الجمال الناعم والأنثى العاشقة التي تقدّم دعماً معنوياً لحبيبها وشعبها، تطبّب جراحه في الحرب، لكنّ الرجال هم أصحاب النفوذ، يضعون القرارات وينفّذون المهمّات، يخطّطون، يكيدون، يحاربون، ويواجهون مصير الفشل والنصر.
ينتصر المؤلف في الختام للحق، للتسامح والحب، بالحنكة والقوّة والفروسيّة، وهو يقول: «كي يكون الحق منتصراً لا بد أن يكون قويّاً».
يوضّح المؤلف في النتيجة أنّ الثورة، لا يمكن أن تتم بين ليلة وضحاها، وهي ليست قراراً يصدر عن جهة طامعة أو جهة مُستضعفة لا تدري ما تريد، بل هي قرار حكيم يُدرس بتأني وبسرّية غرض الحفاظ على مشروعيّتها، وهي ثورة تتسلح بالعلم والمعرفة والوعي ولا تقوم على أهداف آنية ومحددة، وبدا ذلك، كما ذُكِر، من خلال اجتماع حكيم البلاد مع قادة الثورة والّذين تنوّعت مهامهم بتنوع أهداف ومصالح الثورة، وبذلك يقول المؤلف أنّ الثورة لا تخص فئة من دون الأخرى، بل هي مفهوم شامل يقودها الوعي والهدف منه التخلص من الفساد والخروج من الظلمات إلى النور، وعلى الثورة أن تكون محيطة بكل الاحتمالات جاهزة للسيطرة على الوضع، وبالطبع الثورة الحكيمة لا تنجح من دون زعيم لا تنقصة الحكمة والفطنة، لا يخطئ، ولا تنطلي عليه المكائد، يتمتع بالمنطق والمعرفة والأخلاق، ومن نسل حر، ولذا يمكن إسقاط بلاد النور على كل بلاد في العالم تسعى إلى الحرّية.