الشاعر محمد سرور: النقد يعيش متاهة ما بين همروجة الأضواء وواقع بلا منطق
رنا صادق
«من دون طاقة الحرّية، ومن دون بُعد حرّية الإرادة تحديداً، لا يكون هناك شعر ولا أدب ولا فن»، تعبير كثُر ترداده على لسان الشاعر محمد سرور أثناء جلستنا الخفيفة في «البرلمان» في شارع الحمرا.
ذلك الشاعر الحقيقي، الشغوف المغامر أبى أن يُنسى، اجتهد بصمت، خفت صوته حيناً وتصاعدت عاصفته حيناً آخر، نتج عنها دواوين وروايات حكت بنسج الإنسانية ملاحم وأشعاراً.
محمد سرور الشاعر، الصحافي والكاتب والرسام. شاعر الكلمة، صحافيّ الحق، وكاتب الإنسان ورسّام الوجع، اجتمعت بقدراته الفنية هذه صلة رحم قوية، وهي صلة الإنسانية.. لا تجرّد أو تلطيف لدى سرور حين تكون القضية قضية حقّ وموت، كقضية العزيزة فلسطين.
شاعرٌ طليق، لا يؤمن بالقولب والنظم، فكل من شاء الكتابة سيبرع في مكان ما، مع مراعاة بعض الضوابط العامة، حسبما يرى سرور.
يؤمن بحركة الأجيال، وإنتاجهم للحركة الثقافية لذا هو مطمئن على القصيدة. كما يؤمن باعتراض هؤلاء على الاستبداد والقوالب البالية. لكنه ينصح الكتاب والشعراء الناشئين بالابتعاد عن المنابر والمحطات التي تمسك الفرد من أذنه وعقله… أن يولدوا دائماً أحراراً.
«البناء» التقت الشاعر والصحافي محمد سرور وتعرفت إلى أبرز سمات نصوصه ووجدانه. وننقل تفاصيل اللقاء في ما يلي.
هو ابن ضيعة جنوبية متاخمة لفلسطين، الجغرافيا رغم لعنتها كانت عاملاً كبيراً في أن يعيش محمد سرور وسط أسئلة صعبة وجودية، أسئلة المصير والأمان، أسئلة الوطن، أسئلة العدو، والعائلة ببعدهم الإنساني والقانوني.
عاش هذه الهواجس مذ أن كان طفلاً، وهذه الهواجس هي الحد الأدنى لأي أحد أراد من أجل أن ينطلق بالحياة، بالكلمة والسؤال، كما لينطلق باتجاه المعرفة والاكتشاف.
يقول سرور: الظروف ساعدتني، فهويت الرسم الذي كان شكل باباً لتوجهي نحو الشعر، وعالم التفاصيل. لأن التفاصيل دائماً والجزيئات الصغيرة هي ممرات العالم، التي يتوغل الناس من خلالها ويعرف نفسه وسط هذا العالم، وكم ذرّة يساوي بالنسبة لذلك العالم.
هو المجرّب، التلميذ الشغوف في الاكتشاف، هوى الرسم بمضامينه وفتح باب الشعر من وسعه الفلسفي بتجرده الإنساني. يعبر الممرات الشاقة والصعبة حدّ التضحية إن كانت القضية هي الإنسان. الإنسان المظلوم، الضعيف والذي لا حول حول له ولا قوة.
النصّ الملك لا سواه
ما زال سرور في مرحلة التعلم ـ كما يعرف عن نفسه ـ يحب المعرفة لا يمل الاكتشاف، الثقافة تهويه ولا يفصلها عن الشعر.
«مخطئ من يقول أنه وصل إلى القمة»، جملة يقولها سرور ويرددها مرات عدة، لأن بنظره تلك القمة مدى ليس من المفروض أن يصله أحد، والقمة هي البحث الداخلي عن الذات ومكانة تلك الذات في العالم، خصوصاً الشعراء. لأن الشاعر ما إن أراد أن يكتب عليه أولاً، الكتابة عن نفسه وفي المحصلة، نفسه قد تتلاقى مع الناس، وقرائه ومتسمعيه، ويصبح مداه يتسع شيئاً فشيئاً لأنه لم يعد وحده في منظومة فكره وقناعاته. لذلك إن القمة هي النص ليس الإنسان، لأن النص دائماً له مداخل عديدة ومجالات رؤية من أمكنة مختلفة بالنسب للأشخاص الذين يقرأونه. ملكٌ هو النصّ.
بدايته مع الرسم بدأت بكتابة المقالات النقدية عن الرسم، فلاقى أن الكلمة ليست أقل قيمةً من السم بحد ذاته، وكنظرة تملك يبقى النص حاضر في نفس سرور.
ويضيف: كانت لدي تجارب سابقة في الرسم احتفظت بها، وكأنني أستحي بها، أحميها أو شيئاً من هذا القبيل… شاركت بمعارض عدّة، ومثّلت فلسطين أكثر من مرة وأفتخر بذلك، مرّتين في معرض رشيد كرامة، وهاتان التجربتان منحتاني طاقة معنوية كبيرة، وطاقة إنسانية ضخمة. فلسطين هي القيمة الأكبر بالنسبة إليّ، وبقيت على تحفظي في إظهار رسوماتي حتى الانتفاضة عام 2000. في الانتفاضة كنت أستلم ملف «يوميات الانتفاضة»، غصتُ في هذا الملف ببعده الإنساني حيث كتبت هذه اليوميات وكانت كالانفجار الكبير لتشكيل شخصيتي.. هذه المحطة التي كتبت فيها وأنا لا أعرف ما الذي أكتبه، ببساطة هذه المأساة مأساة فيها تفاصيل ومواقف، سجّلتها دوّنتها، لم أكتب عدد الشهداء والجرحى بل تلك القصص اليومية الحزينة، كقصة العرس والجنازة في المنزل الواحد، أو عندما يذهب أهل العروس إلى منزل أهل العريس للاعتذار منهم لأنه صُدف أن ابنهم استشهد اليوم، أو تلك المرأة التي تنجب مولودها على الحاجز… وغيرها وغيرها من الحالات والتفاصيل ترافقت بيوميات الانتفاضة.
كتاب «يوميات الوجع الفلسطينيّ» هو البداية، والانطلاقة في ما بعد من عالم الصحافة والإعلام إلى عالم الكتابة والأدب.
«الغرباء»
يقول عن كتابه «الغرباء» إنه يتمرّد على السياق التقليدي، ويقصد بذلك أنه يكتب ببعدين، أولاً المغامرة والتجريد، ثانياً أنه ضد القوالب الجاهزة والتقنيات التي أوردونا إياها ما أوردونا الاستبداد، فهو لا يؤمن بتلك القوالب. لذلك يكتب بإنسانيته، شغفه وقناعاته مهما كانت عكس التيار.
ويضيف: مع ذلك أنني ضد القوالب، إلا أنه على الشاعر أو الفنان أن تكون لديه ضوابط، بالمعنى في النص كرسالة وقيمة دبية والتزام بأدبيات اللغة وتقنياتها، لكن القول فرضاً أن الرواية لا تصلح سوى هكذا، أم أن القصيدة لا تفلح إلا هكذا، فهذا كلام غير صحيح وغير منطقي. فنحن لسنا عساكر، بل أناس أحرار نقدم المادة اذا كانت هذه المادة أقل قيمةً أو كثافة أو شاعرية فليكن حينئذ للنقاد حق نقد ما يكون.
ويتابع: «الغرباء» مجموعة قصص ورسائل صغيرة لا تشبه بعضها، لكن تتفق في ما بينها ببعديها الوجداني الإنساني، لكن كل منها قصة أو أقصوصة بحد ذاتها لها تكوينها الخاص وحكايتها المختلفة. لذلك سمّيتها رواية، وذلك نوع من التحدي للواقع القائم، ومن هنا، حين جُهد مجدول بعنواينه وبالبعد الوجداني نفسه يكون النتاج رواية.
«الغرباء» تشكل خلاصة تجربة شخصية، تنتمي للبعد الإنسامي وقالبها العام لا يتشابه أبداً. قصصها تختصر عاصفة الإنسان الذي أتشكل منه، وتتراكم وتطلق ما يسمى الرواية أو «الغرباء». وهذا ما يميزها عن غيرها.
ما بين الشعر، والكتابة والروائية والصحافة، والرسم يجد محمد سرور نفسه في أحضان اللوحات في المكان الذي يقدر أن يوصل رسالته من خلاله، لكن الشعر والأدب يشكلان العالم الذي يترجم بهما رسالته التي يود إيصالها.
السكينة التامة والليل من أبرز طقوسه الخاصة للولوج في الكتابة حين لا يكون للضجيج مكان، أي حين لا يُطرق الباب، ولا صراخ أطفالٍ في الشارع يلعبون، باستثناء بعض الموسيقى الخفيفة التي يهواها. والكتابة الشعرية لها طقس ثانٍ حيث تأتي في لحظة خاطفة يجب قنصها في وقتها، لا يفتعل الكتابة… فالكتابة بالنسبة إليه، إما أن تأتي أو لا تأتي، هي ليست حرفة، أو ظيفة بل هي حالة.
قصيدة النثر
اختار سرور قصيدة النثر كجزء من حالة الاعتراض على الاستبداد القائم، حيث يقول: يهمني ما يبقى لا يهمني النظم. فالنص هو الشاعرية لا شيء آخر. لست متطرّفاً لأي نوع، بل أشترط لأيّ نصّ معيار الشاعرية إن كان نصّاً كلاسيكياً أم غيره. إضافةً إلى أنني أحارب الاستبداد في النص وفي مضمونه. تحمل نصوصي شعار الإنسانية معها في كل قضايا العالم، فإن لم تحملها كان النص زائفاً.
الشاعر يعيش باحثاً عن نفسه وعن سعادته، فبعضهم يعتبر أن يجد نفسه حين يجد الحب، والبعض يرى أن السعادة تأتي عندما يتحرر الشاعر من القيود والقوالب، أما سرور فيرى أنه إنسان يعيش لتسخير الإنسانية من دون أي شرط.. وللحب مساحة، وللسعادة منافذ يجب إيجادها لتحقيقها.
يرى سرور إن الإفراط في الغموض هو تضييع لقيمة النص، وفي الوقت عينه تضييع للنص بحد ذاته، فعمل القارئ ليس فك الرموز وحل الكلمات المتقاطعة التي لا نهاية لها، بل عمله هو الوصول إلى طرف الخيط مع الكاتب في المقصود، ويجب ألا يسأل الكاتب ما المقصود من هذه الجملة؟
ويقول: يجب أن يكون المعنى واضح لكن بأسلوب شيق فيه ما يكفي من المتعة، وما يكفي من التورية والترميز.
النقد يعيش متاهة
يرى سرور أن النقد من فترة طويلة يعيش متاهة، لأنه يعيش همروجة الأضواء، ويعيش واقع مفركش في اللامنطق، ويعمل على مراعاة الخواطر أكثر من العمل بالنقد سلباً أو إيجاباً.
ويقول: كلنا بحاجة للمساهمة بالنقد بطريقة أكثر إيجابية، وأبدأ بنفسي حيث أقول دائماً، لا يهمني عدد المصفّقين بل يهمني من ينتقدني بالبعد الموضوعي المنطقي الذي أحتاجه.
قصيدة
ناوليني الكتابَ،
وخصلة من عفرةِ الجفراءِ
ورمحاً من حنينِ العشقِ النبيل…
يا للضحكةِ الأولى
يا للدمعةِ الأولى
يا للسطورِ…الصفحاتِ
ما أكثرها.
ناوليني ذكرى خلوتِنا الأولى،
وعناقَ المشتهينَ لغةَ النار…
ناوليني مِعصمَكِ الحرير،
كي أشم عطركِ الأول في ثنايا السنين.
لأننا ورثة أدبٍ خصيب،
نخفضُ الجفونَ
وهمساً تنبضُ بالحب قلوبُنا،
نخجلُ إن غارَ السوسنُ من الحبَقِ،
نتنقلُ فوقَ جدرانِ الحقولِ كي لا نكسرَ كبرياءَ أقحوانة.
ولأننا ورثة أدبٍ خصيبٍ،
نخفضُ الجفونَ أمامَ المرايا
ونخبىءُ في الصدورِ تنهداتِنا
كي لا يفضح بخارُ أنفاسنِا لواعجَ الخَيال.
ولأننا بيضُ السجايا،
كنا نقطفُ الخبَرَ من بساتينِ إذاعةِ لندن،
ونختمُ بالشمعِ الأصفرِ حواسنا،
كي لا تسبقُنا آهة أم كلثوم،
وترنيمة عبدِ الباسط.
ناوليني فوانيس الحراسِ في ليالي الخطايا،
عِتابَ المزروعين على شفاهِ المنايا.
ناوليني أسئلة الساكبينَ طاعتهم في أجرانِ المطهرِ،
والقابضينَ على أفواههم حذراً من زلةٍ ماكرة.
طيبين حد السذاجةِ كنا،
نخبىءُ في الجيوبِ بقايا سجائرَ أطفأنا ذاتَ فجاءةٍ،
وقطعة مطاطٍ ننضدُها فتصيرُ مقلاعاً…
وبعض قطعِ الخشبِ نسويها كلاشنكوفات…
ما أبسطَ الثورةَ في حاراتِنا،
ما أشد نبرة الإذاعي عندما كان ينقلُ سيرة الفدائيين…
ناوليني الزادَ،
بقاياي التي أهملُتها
وكراريسَ الثوريين الصفراء،
وصورَ ولائمِ أصحابِ المعالي في العزاء
ناوليني…
شظايا انهزامي على شفاهِ الردى.
ماتَ نصفي يا رفيقة الجراح،
وسنابلي أثمرتْ آهاتٍ بلديات،
ناوليني
كل الطعناتِ الخالداتِ،
وثاراتِ المدججين بالبداوةِ
وقميصَ الساكنِ ذاتَ جُب عربي.
ناوليني…
صهيلَ خيولِ الغازين مَضاربي،
وبُكاءاتِ السبايا في خدورِ الغاصبين،
ولوثةَ البكارةِ في معاني الشرفِ…
مادمتِ ممسكةً عنقي بأظافرِ الغفران،
ناشبة أنيابُكِ في ثغرِ خنوعي،
خانني الأنينُ،
وأنكرَني رَكبُ المهاجرين،
نَحريَ عينُ السُفلاءِ الزلال…
ليشربوا مِقدارَ ثمالةٍ
أو أكثر.
ناوليني
أشلاءَ العروبةِ الفتيةِ
ومقدمة ابن خلدون،
ووسامَ جاهلٍ أهداني إياهُ مستشرقٌ ذاتَ تصفيقٍ.
لا تسأليني عن وجهتي،
فأنا يا رفيقة الجراحِ
اخترتُ اتجاهي،
علني أجدُ في التسكعِ رفيقةً بِكراً
أهديها بعضَ جراحي…
عربونَ ألمٍ.
لأنك الومضَ في أحداقِ المنافي
صرتَ القيثار الذي لحنَ النبضَ في جوارحنا.
لجسدكَ الناحل أزهَرَ قِندولُ الجليلِ، فكم غارَ الريحانُ من خطاكَ
من عبير أنفاسِك.
مَنْ يحكي للحالمينَ عن وحشةِ الدربِ، عن شظايا الذاكرةِ في البيوتِ العتيقةِ
منْ يُحاكي عيونَ الصورِ اليتيمة
ومن يَمْسحُ الغُبارَ عن المَرايا الحزينة؟
لا تذهبْ
من يؤنسُ أرصفةَ المدائنِ ، يُروضُ التسكعَ بملامح المنفيين،
بلا شيء تسكعتَ وحيداً، مع لغةٍ من قمح ٍ
وهدايا قُبَلٍ للوجوهِ الخائفة.
مثلما أطعَمْتَ الغُربَةَ ابتسامتَكَ وقطرةَ دمعٍ نقيةً، سرحْ للقصيدةِ ضفائِرَ الاُمسياتِ
لا تذهبْ
فمَنْ يُرممُ حُطامَ أجسادِنا، من يُعيدُ أسماءَنا نحنُ الذينَ في مَهَب الغيابِ ، من يُنقي حناجرَنا من كلامِنا الهَباء؟
لا تذهبْ
الأغنياتُ تائِهةٌ، والمخيمُ بِلا نايٍ، بِلا نَغَمٍ.
لمنْ الأُغنياتُ الآن؟
العروسُ مَسبيةٌ والمَهـرُ مَساكِبُ أفئِدةٍ والتفاتاتُ طرائِد .
لمنِ الأغنياتُ، وأي المناديلِ تخبئُها؟
ألسنا قبائلَ تغزو قبائلَ باسم الدين نُقتلُ؟ تأسفُ الأُغنياتُ لدمٍ يُراقُ منْ جيدِ غزالة.
لا تذهبْ، واليمامةُ مكسورةُ الجَنَاح
لا تُعلنْ موتَ الصباح.
كأنكَ تتركُ لنا القصيدَةَ مِقْصَلةً، كعادتِكَ في الدهشَةِ، تطعنُنا بباقةِ شعرٍ بواحدةٍ من حالاتِ موتِكَ تطعنُنا، ثم تنتشلُنا من الموتِ لِنبكيك أليسَ ثمةَ ما يستحق الحياة؟
هل ماتتْ أحلامُنا بساطورٍ يبشهدُ أن لا إله إلا الله؟ ألم يكفِنا لصوصُ الغفلةِ وسُباة الأرضِ والديار؟
أما زالَ فيكَ بقية وَعدٍ؟
لا تُسرجْ للفراغِ القصيدة
نبضُكَ ما زال فينا يُهجي لنا دروبَ البَهاء؟
لا تذهبْ
العندليبُ أنت،
كالحياة أنت،
كمْ أَسكَنتَ الحِصارَ قاماتِ السنابِلْ؟
يا أنيسَ الأسفارِ
كمْ نجمةَ صُبحٍ قطفتْ يداك، كم لِمغيبٍ لوحَتْ؟
كمْ شَرعَتْ عيناكَ مَدىً، كمْ عاصِفَةٍ أطفأتْ؟
يا جَناحاً في العُلى،
كمْ تنهدْتَ وحيداً في الأقاصي الموحشة؟
لا تُسرجْ للغيابِ جَفنيكْ، ففيكَ بقيةُ لَحنٍ، بقيةُ لغةٍ، فيكَ لنا أغنيةٌ، للوطنِ نبيذُ أنفاسِكَ المُعتق.
ليسَ ذا الموتُ، إنما تحديقٌ بقاموسِ جراحِنا
ليسَ الموتُ، بَلْ تجددٌ للعِشق ـ للقلق.
ما زالَ قلبُكَ ينتظِرُ عَتَباً شهياً
يتحفزُ لِما وراءَ الغَضب، لِصَمتٍ هو أبلغُ القصائِد.
أهو الإحتجاجُ بالغيابِ، أم هو ابتكارٌ لآخِرِ رَوائِعِ الدهشة؟
لا تذهبْ
فالسؤالُ في رَيعانِ عُقدتِهِ، والدمعةُ أوسَعُ من ضوءِ شمعتِها
ألستَ حصانَ نفيرِنا، حصانٌ سرجُهُ الحصار، سيفُهُ الشعلةُ، ميدانُهُ
القهرُ العريق؟
كالوَهلةِ تعبرُنا، إلى احتمالاتِكَ القصوى، إلى شُرفةٍ في سَحابةِ الأريج.
كالجلادِ تقتُلنا، بسوسَنِ خاطِرةٍ غريبةٍ تقتُلُنا، بزهرةِ رُمانٍ.
تُعلقنا على حِبالِ شمسِ الصباحِ، على ألوانِ قوسِ القُزَحِ تُعلقُنا.
يا سَليلَ قبائِلِ النَرجس، من خُطاكَ الأمكنةُ طالما اختَلسَتْ صدىً، لكن للمنفي جذوراً في غماماتِ المطر، للمَنفي عيوناً من عَسَسِ الإياب.
فاتحةُ العِشق أنت، خاتمةُ العِشق أنت
لا تذهبْ
فالكلامُ أنت، منْ سِوى صوتِك يمحو زَبَدَ الطوفانِ؟
لا تذهَبْ
إنكَ من زَهرِ اللوز أنقى من زَهرِ اللوزِ أبعَدْ.
ليتَنا لمْ نُقدسْ في الإبداعِ حِبرَهُ
ليتَكَ لمْ ُتعلمْنا طِباعَ النسور
يا لَعارهِم ترَكوا الحِصانَ وحيداً ثمة من اغتالَ مَيدانَهُ والغُبار
قالَ البلاءُ لك: هوذا القَبرُ رايةٌ مثلُكَ من أطايبِ مائِدَتي.
قُلتَ: مِترانِ من هذا الترابِ سيكفيانِ والباقي لزهرٍ فوضوي اللونِ، يشربُني على مَهل.
لا تذهَبْ
فأي الأيدي حفُرتْ لكَ المَثوى
أي الشعرِ يَرثيكَ ومَنْ سِواكَ يكتُبُ إليكَ نَشيدَ الوَداع ؟
ولَئِنْ أكثَرتَ من الوصايا لئِن مُت كثيراً، لكن عالَماً دونَكَ هذه المرة رَتيباً عَليلا.
أُقسِمُ أنكَ تليقُ بنا، بالوزالِ بالنرجِسِ بكُل الزهرِ الفوضوي، بكُل أحمدَ عربي.
أقسِمُ أنكَ جُفونُ المَنفي لونُ عينيهِ
أقسِمُ أنكَ ظِل المكانٍ، وقنديلُ السمَرِ والحَداء.