الجريمة والعار: اغتيال زعيم الحياة

حنان سلامة

اجرحْ ترابَ الأرضِ تبتسمُ، لزرعِ بذرةٍ تكبرُ نسراً بين السّحابِ تحوم

هكذا نحنُ نموتُ في الأرضِ كرامةً وعند شموخِ الشّمسِ نعتزُّ ونقومُ.

لطالما فاضت صفحات مجد البطولة بسطور العزّة الّتي تضرّجت بدمائه الزّكية يوم لبّى نداء الشّهادة على مذبح واجب حقّ الأمّة عليه، كما هو حقّ عقيدته وفكره ونهجه فالدّماء التي تجري في عروقنا هي عينها ليست ملكاً لنا، بل وديعة الأمّة فينا متى طلبتها وجدتها.

الثامن من تمّوز هو يوم استشهاد باعث النّهضة القوميّة الاجتماعيّة ورائدها وشهيدها الأوّل الذي حافظ على شرف أرضه بدمه وروحه وبقوله الذي لازم ولادة مبادئه، حيث أعلن أنّ استشهاده هو شرط أساسيّ لانتصار قضيّته.

إنّ وقفة العزّ في الثّامن من تمّوز عام 1949 هي مواجهة مباشرة للحقّ ضدّ الظّلم والطّغيان، وجريمة موصوفة بحقّ زعيم الحزب السّوريّ القوميّ الاجتماعيّ الذي أطلق نهضة وعقيدة تعيدان الحياة إلى الأمّة ضمن خطة نظاميّة في مواجهة المؤامرة الصّهيونيّة التي تهدف إلى سلب الأمّة أرضها، وتفتيت مجتمعها القوميّ وطمس حضارتها، حيث وجدت تلك المؤامرة أدواتها الطيّعة وسط النّظام الطّائفي، وحيث لاقت منفذاً، ونجحت في اغتيال سعاده، لكنّها لم تنجح في القضاء على فكره أو إخماد الثّورة الّتي استلهمها وكان مدركاً تماماً أنّ انتصار أبناء الأمّة لاحقاً هو الانتقام الحقيقيّ والوحيد لظلمه وإعدامه، حيث قال: «هذه اللّيلة سيعدمونني أمّا أبناء عقيدتي فسينتصرون وسيجيء انتصارهم انتقاماً لموتي».

وبالفعل، انتصر سعاده في نفوس الأجيال الّتي لم تولد حينها بعد، فخرج من هذه النّهضة المقاومون والمناضلون والاستشهاديّون الذين هاموا في بطاح الأمّة وسهولها، ليستلهم منهم المقاومون ما أقدموا عليه من فعل البطولة إيماناً منهم وقناعة بأنّ أزكى الشّهادات هي شهادة الدّم.

لقد كان هدف سعاده توجيه حياة الأمّة نحو التّقدّم والفلاح، وكذلك تحريك عناصر القوّة القوميّة فيها لتحطيم التّقاليد الرّثّة وتحرير الأمّة من قيود الخمول، والوقوف سدّاً منيعاً ضدّ المطامع الأجنبيّة التي تهدّد مصالح النّاس وكيانهم، وإنشاء تقاليد وعادات رائدة، ذلك أنّ عقيدة سعاده تؤكّد حقيقة إنسانية أساسيّة هي الحقيقة القوميّة ذات المضمون الاجتماعيّ.

كان سعاده من أوائل الّذين تنبّهوا في بدايات القرن الماضي إلى مخاطر الحركة الصّهيونيّة، وكتب من مهجره في البرازيل عام 1925 مقالاً في مجلة «المجلة» بعنوان «الصّهيونية وامتداداتها» وبدأ يشعر منذ ثلاثينيات القرن المنصرم أنّ الفكرة الصّهيونيّة الدّاعية إلى عودة الصّهاينة إلى أرض التّوراة بناءً على وعد إلهي مزعوم، بدأت تتحوّل حقيقة مع تدفّق قوافل المستوطنين من كلّ أصقاع الأرض إلى فلسطين ليستفيدوا من التّسهيلات التي أتيحت لهم من سلطات الانتداب الإنكليزيّ التي سعت جاهدة لوضع وعد بلفور المشؤوم قيد التّنفيذ.

لم يكتفِ سعاده بالتّحذير والتّنبيه، بل دعا إلى الدفاع المنظّم عن فلسطين بكلّ الوسائل المتاحة، بما في ذلك المقاومة المسلحة، معتبراً ذلك واجباً قوميّاً على كلّ أفراد الأمّة، لأنّ الخطر الصّهيونيّ لن يقتصر على فلسطين فقط بل سيطال كلّ الأمّة.

احتلّت قضيّة وحدة الأمّة جزءاً كبيراً من فكر الزّعيم ونشاطه، واعتبر أنّ المقاومة ستكون ردّاً طبيعيّاً على سعي الدّولة الاستعماريّة الى تقسيم المنطقة إلى كيانات ضعيفة مهشّمة مستندة بذلك إلى اتّفاقية سايكس بيكو.

لقد قرأوا سعاده فاهتزّت عروشهم ووقفوا مع أعداء البلاد يفاوضون عليها فاستزلموا واسترأسوا وكانوا بكلّ ذلك قيّمين على تنفيذ مخطط يهدف إلى القضاء على سعاده. تآمروا عليه وأقسموا بشرفهم العسكريّ كذباً، وامتلأت جيوبهم من فضّة العمالة والخيانة.

لو أدرك الطّغاة ما فعلوا، لعرفوا أنّ الحقّ ينتصر على الباطل، وأنّ الدّم ينتصر على السّيف، وأنّ التّاريخ يكتبه الأبطال الشّرفاء وليس الأذلاء الجبناء.

جلادوك وحلفاؤهم وتجّار الهيكل الّذين رضعوا من ثدي الذلّ قسّموا الوطن وألّبوا ناسه بعضهم على بعض بعناوين الْتبست على الطّيّبين من أبناء شعبنا فصرنا نختلف على لون السّماء ومنابت النّجوم وفي أيّ كتاب نقرأ وصار الله آلهة نفصّلها كيفما نشاء وصرنا نستطيب أكل لحوم بعضنا بعضاً وترتفع السّواتر بيننا، فلم نعد نرى إلا الغربان وظلمة الأقنعة السّوداء، وباتت تلك الظّلالة تحجب نور الله فنفقد الأرض.

اختار سعاده التّاريخ كي يقيم فيه، ومن موقعه يبدو مستقبلنا بهيّاً مشرقاً كنهار صيفيّ. سعاده لا يزال مقيماً بيننا في إيماننا بنهضته، بحركته وبحزبه. لا يزال محفوراً في وجداننا، قائماً مع شهقات الشّهداء في ساحة المواجهة المصيريّة

مَن لا يشعر بدم سعاده يجري في عروقه، ومَن لا يرى القدس في عينيه، وبغداد فوق جبينه، والشّام في قلبه، وبيروت في دمه وكلّ أرض سليبة في نبضات قلبه، ومن لا يعش تمرّد روحه، وعنفوان نفسه، وعشقه لشعبه وأمّته بكلّ جوارحه، سيبقى مرميّاً على جانب الطّريق يلعق الذلّ والهوان ويستجدي مقاماً ونفعاً ودوراً من أصنامٍ حطام.

تلامذتك استحضرتهم نبوءتك فأتوا من ملأ الدّنيا زوابع. ما أوهنت عزائمهم سجون، ولا نالت منهم عذابات وجراح، ولا أرهبهم دم واغتيال، ولا شحّت عطاءاتهم ولا أحنت هاماتهم تهديدات.

ماذا نقول في كلّ الذين ساروا على هداك؟ فها وجدي وخالد ومالك وعمّار ونورما ومريم وفدوى وعلا وابتسام وسناء وسائر الكوكبة المنيرة قد عمّدوا بالدّم مسيرة النّهضة، واكتسبوا شرف الانتماء لها.

مَن قال إنّ سعاده صورة أو كلمة في كتاب فقد أخفق، ومن قال إنّه لحم ودم فقد أخفق. سعاده هو روح وحياة قيادة، وحرّيّة وعطاء، ونبل شهادة ونور ونار.

في ذكرى استشهادك اشتقنا لروحك. فكم نحن مدينون لك. فمعك عرفنا كيف يكون الفرد منّا إنساناً، ومعك عرفنا لذّة الألم في سبيل الـ «نحن». معك نعيش عنفوان الجرح وتمرّد الدم. فيا صاحب الذكرى، رفقاً بجراحاتنا فلا تؤاخذنا على بعض ضعفنا. أمسك بيدنا كما وعدتنا، فليس منّا جبان أو متردّد. فكما حميتنا في ضعفنا، ووقيتنا من جبنٍ، اِبق معنا فوق هاماتنا وفي عيوننا وقلوبنا وسر بنا الى النّصر.

لقد حرّرت بعقلك وقلبك العقول والقلوب. أنت رائد النّهضة وقائد حركة التّغيير، وحيث تكون ستكون الحياة بفكرك وتعاليمك ومبادئك التي وضعتها وفي العقيدة الّتي أرسيتها.

سعاده لم يعِش الحياة ليرويها بل ترك إرثاً عظيماً، وإنْ غاب بجسده فقد دخل بوّابة التّاريخ وأطلّ علينا شمساً تنير دربنا وتحمل لنا معاني الشّهادة ومعاني جديدة للحياة.

سقطَ الجسدُ أرضاً واعتلت روحُهُ

شموخاً وعزَّةً غازلتْ سحابَ السّماء

وعند القيامةِ نزلَ وحياً قوميّاً موجّهاً

كي يستنهضَ فينا مقاماتِ الشّهداء.

عضو اللجنة الثقافية المركزية

في الحزب السوري القومي الاجتماعي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى