«الترسيخ»… بروباغندا أم تأكيد واقع مزيّف؟

طلال مرتضى

في ما لا يمكن نكرانه اليوم، ما يطفو أو يشوب وجه الساحة الثقافية من طمي أشبه بالقيء تحت معنونات الأدب ورفع السويّة الثقافية التي يراد منها فقط، الحضور وتسجيل الأهداف المواربة النوايا.

مما لا شك فيه، وبعد تجربة الحرب الدامية الأخيرة التي فرضت علينا قسراً، لم يزل هناك، ممّن يمتهنون عتلة الكتابة، يعتقدون أن تلك الحرب هي حرب من أجل الوجود «الحياة»، لطائفة ما أو جماعة ما، أو حزب ما أو لأجل كرسيّ.. أو…إلخ.

فبعد مرور تلك السنوات كلّها لم يعوا أن هذه الحرب، والتي أطلق عليها «الحرب البديلة»، وأقول بديلة لأنها قامت بالنيابة عن آخر استطاع الهيمنة على مجموعة ما أو نفّذ في حزب ما أو.. أو..

تحت لافتة المساندة والدعم لحصول الأخير على حقوقه، الحقوق الحقة والتي يراد منها بالتأكيد باطل مطلق.. فالحقوق ذاتها قد ضيعها الأُجراء، والتي كانت ولم تزل غايتها الأولى والأخيرة حذف هويتنا الوطنية، الهوية التي نستمدّ منها كل مقوّماتنا التاريخية والثقافية.

بالمجمل، لم يكن المراد مقالي هنا، فحكايته تدور في ملعب تالٍ وفلك آخر، من خلال السؤال الذي طرحته أعلاه للوقوف على استبيانات مهمة، حول ما نطلق عليه مصطلح «التكريس»، وهو الباب العالي الذي دلف منه أعداؤنا في عزّ ظهيرة حضورنا، بمعنى أوقح بما يدليه المثل، «على عينك يا تاجر»، وأقصد باب الحرّية.

نجد كلّ شيء يدور حولنا ممنهج، كل شيء مشغول عليه بعناية أكثر من الفائقة، وكي لا أذهب في إسقاطاتي بعيداً، سأبدأ من مشهديتي السورية تحديداً للوقوف على نواصي الحكايات.

الإعلام على سبيل المثال، كنا نتلمس وقبل بداية الأزمة ما ذهبت إليه النوايا، التي دأبت على تكريس وتعويم سياسة «البوشار» أي ظهور الفقاعات الإعلامية الفارغة والتي سكنت كل مفاصل الإعلام بعدما تم دعمها وبشكل مطلق من أحزاب ودول وكيانات نواياه مبيتة تجاه بلدنا، بدءاً وعلى سبيل المثال من مسلسل «باب الحارة» الذي تسلل بهدوء على عين الرقابة، والذي كنت وقتها ماذا تعني الحارة في الشام، فدمشق كلها مقسمة إلى أحياء، الميدان، المالكي، الشعلان وو.. إلخ، وحدها كلمة «حارة»، في دمشق تعني «حارة اليهود» في شارع الأمين، ليتوقف القارئ عند هذه الإشارة بعينها.

وكثير من المسلسلات الأخرى والبرامج الثقافية التي عنت جيداً بثقافة الصورة، وكون الصورة ثقافة، مسلسلات كانت تعتمد على عرض تفاصيل الجسد الغاوية، ناهيك عن مجمل مشاهدها في «بيجامات النوم» البيجامات التي هي سلاح ذو حدين على أجساد الفنانات الفاتنات، بعيداً عن غايتها الإعلانية فلنبحث عن غاية تسييل لعاب المشاهد الغلبان.

الحرب قامت، ولا يستطع أيّ منّا نكران ما وصلت إليه الحركة الثقافية والأدبية من انحدار في ظل غياب المبدعين الحقيقيين، لعلّ الأمر وصل بنا حدّ الدسّ لا في الأحاديث المقدّسة فحسب بل بالأمثال على مبدأ المثل، «مو كل مين صفّ الصواني صار حلواني»، بالمطلق هي الفرصة أتت ولا بدّ من اقتناصها، كيف لا يصير حلوانياً؟ وبائع القهوة، ولا أقول هذا انتقاصاً به ، صار يوسم ويقدر ويهب شهادات الدكتوراه الفخرية، وبالتأكيد لي باع من المقالات السالفة تحدثت من خلالها عن النوايا المبيتة من هؤلاء لكسر الشهادات الوطنية عبر تعويم الساحات الثقافية بشهادات الدكتوراه تلك صفراء النوايا، وهنا لا بدّ من ذكر حنق المنتفعين عليَّ، حين اقتربت من عشّ عسلهم، ومنهم لم يزلوا يتبوّأون مناصب في وسائل إعلامنا تحت حجج التمترس بالبلد لمقارعة الهجمة العشواء عليه وقت هربنا نحن..

بعيداً عمّا تحدثت به أعلاه، اليوم السؤال دهمني على حين استفزاز، إلى أيّ مدى نحن فارغون؟

لعل كلمة «فارغون» تثير حنق البعض منكم، لكنني أتقصدها تماماً، وهذا الحنق السريع هو من أوصلنا إلى هنا، والجواب الفعلي لكل هذا، لماذا لم نتحصن، لماذا لم نسيج أرواحنا وبيوتنا لينعكس هذا على الوطن، أليس هذا فراغ؟ ماذا نسمي سقوطنا السريع في المكيدة، هل هي طيبة أنفسنا أم رهافة قلوبنا؟ لو سلمت بهذا سأقول إننا قوم كاذبون ومن غير تردّد…

لن ينفي أحدكم كيف الجار في البلاد استباح حرمة جاره، ليس بوسعكم نكران كيف لُعب علينا حين جعلوا منا قطيعاً يقاد تحت معنونات الطائفة والقبيلة والحزب وو…

منذ فترة ما قبل الحرب لم تلد ساحتنا الثقافية شاعراً ولاداً، ولا كاتباً مُغيّراً، ولا أستاذاً علامة، الاشتغال على قدم وساق لتعويم المبتذل وهذا كله يدلي بعدم حصانتنا الداخلية، وحسب الكتب والأبحاث العالمية نحن نعيش تحت سطوة البروباغندا أو ما يسمى مصطلح غسل الأدمغة، وبالتأكيد هناك كتب مهمة تستعملها المخابرات العالمية للوصول إلى مبتغاها عبر تأمين منفذ ما يوصلها لأهدافها، بمعنى أعمّ «البديل»، الذي يستعمل نفوذه المتاح من خلال برنامج «التكريس».

فمثلاً، يومياً نسمع عبر الإذاعة المحلية أغنية هابطة، بكل مقوماتها لمطرب ما، كلماتها ركيكة، ولحنها مبتذل، وصوت المؤدّي نشاز على نشاز، ومن دون انقطاع نجد أنه يتم الاشتغال عليها لتثبيتها وترديدها في عقول الناس من خلال ضخها من دون فكاك لتكون أمرَ حال، ندندن به ونحن نمشي في الطريق.

والأمثلة كثيرة والتي قد تذهب بنا نحو أقصية من حيث لا ندرك، لأنه تم الاشتغال على مثل هذه من خلال الوصول لعقولنا الباطنية والتي تعيش فراغاً وعزلة، وهنا سر مقتلنا.

كان رجل كل يوم يخرج إلى عمله بانتظام، يصادف لدى مروره في الطريق امرأة «بصّارة» تقترب منه لتقرأ له «الوَدَع»، وغايتها بالتأكيد الحصول على مكافأة مالية، ولكن الرجل كونه محصّناً في العلم كان يرفض الاستماع إليها، وهو ما زاد حنق البصّارة عليه فقررت ذات مرة التضحية بالمكافأة من باب كسر حاجز قناعته.

قطعت طريقه وطلبت أن يستمع إليها لدقائق معدودة ومن دون مال، حاول الفرار منها لكنه وقع تحت إصرارها لضرورة ما تودّ قوله، فكان لها ما حصل.

قالت له: «طالعك يدلي لي بأنك مقبل على شيء يسر قلبك ويبهجك، وسوف تتلقى خبراً سعيداً ربما انتظرته طويلاً.. لكن للأسف أنت مقبل على شيء مخيف، هذا ما قاله الوَدَع لي، لم أستطع تحديده، ربما مرض، حادث، أو… لا سمح الله».

ضحك الرجل وغادر نحو عمله..حين وصل إلى العمل وجد الزملاء بانتظاره متحفزين لمعرفة سبب اتصال مديرهم لعدة مرات للسؤال عنه، هو بالتأكيد فوجئ بالأمر، فذهب لتبيان ما يريده المدير.

كانت ثمة ترقية كبيرة بانتظاره.. حصل عليها الرجل لتفانيه في عمله، وتستدعي لانتقاله إلى مكتب جديد وو..

وحين عودته إلى المنزل وبينما هو يزف لزوجته خبر الترقية، كانت بدورها تزف له خبراً انتظراه طويلاً على أحر من الجمر، بعدما وصلهما خطاب أنهما يستطيعان استلام بيتهما الجديد..

لم يعلّق الرجل بالمطلق بل سجم في مكانه بعدما تذكر «البصّارة». فكان السؤال منه لذاته، لقد أصابت الملعونة لمرتين، يا ترى ما المصيبة التي انتظرها.. يا إلهي.

في صباح اليوم التالي لم يستطع قيادة سيارته وهو ذاهب إلى العمل خوفاً من وقوع حادث ما في الطريق، تركها مركونه واستغل واسطة نقل عامة..

أقول: حين تخلى عن سلطة العقل وقع في المحظور، انقلبت حياته كمداً وتوقف لديه كل شيء وجلس بانتظار المصيبة التي وعد بها، حاول عدة مرات الجلوس وراء مقود السيارة لكنه فشل في قيادتها وكأني به لا يعرف كيف يقودها؟!!.

ذات مرة زلّت رجل ابنه الصغير وكُسرت، على غير وعيٍ حمله سريعاً وأجلسه على مقعد السيارة وانطلق به إلى المستشفى، حين وصل هناك وتلقى ابنه العلاج تذكر أنه قاد السيارة إلى هنا من دون أي خوف ولم يتعرّض لحادث.

وحين خروجه وولده من المستشفى وقف مجدّداً أمام السيارة، وجد نفسه عاجزاً عن قيادتها من جديد، وفي غمرة انشغاله بالبحث عن سيارة أجرة، لمح البصّارة ذاتها على ناصية الطريق عند جدار المستشفى تعترض رجل ما وتفضي إليه بما هو مهم: مؤكدة بأنه سيسمع خبراً سعيداً، وسيتلقى في القريب مكافأة ما، ولكنها متوجسة لما يدليه «الوَدَع» عن مصيبة قد تداهمه على حين غرّة..

ضحك الرجل وعاد إلى سيارته من جديد، أدار محرّكها وذهب وابنه إلى البيت ولسانه يحوك السؤال، من منّا لا يفرح لخبر ما، أو غير موعود بشيء ما، من منّا محصّن من أيّ بلاء؟

والمفصل هو عندما نسمح لفكرة ما ومقصودة بأن تسيطر علينا، وقتها نصير ومن دون أي مبالغة عبيد لسطوتها، لحظة التخلي عن سلطة العقل أعني.

كذلك كان السؤال لي: «فيك شي.. أنت لست على ما يرام.. أنا أشعر بأنك تخبّئ شيئاً في صدرك.. ومتعب كثيراً..

تفكر بأمر ما هو يزعجك ويقلق مزاجك وروحك.. قل لي ما بك.. علّني أستطيع دفع هذا البلاء والوجع عنك؟».

أبدا والله.. أنا بخير.. مثلي مثل كل البشر أعيش حياتي العادية مثلهم.

أبداً أنا أقرأ هذا بروحك.. وعيونك.. ألم تنظر إلى نفسك في المرآة؟

ما ان انتهت المكالمة السريعة، حتى توجهت بالفعل لرؤية وجعي وهالات الوجع بي في المرآة اللعينة، تلمست وجهي الذي قرأت شحوبه، وعيناي المتعبتان بسبب هالات الدوائر السوداء التي تحاصرها.. وو..

يا جماعة والله أنا بخير.

أبدا لست بخير، هناك من يرى ما لا تراه أنت بك، كان هذا صوت اللاوعي في داخلي.

بصراحة.. أشعر الآن بألم يدهم كل حواسي، لا أدري سببه ومصدره، ولكنني متأكد بأنني مريض أو مقبل على مرض.

ماذا يجري، وما هو المراد من جعلنا نعيش بدوامات الخيال من خلال ما يراه البعض فينا ولا نراه نحن، هل هي سلطة البروبوغندا التي تفصلنا عنا، لنقع تحت سطوة الفراغ عبر جرنا لمفازات «الترسيخ» لأفكار مضادة؟

كاتب وناقد سوريّ

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى