فؤاد رفقه «من الضبابية الى النورانية» شاعرا مكتنز الرؤى، متعمق بالجذور
اعتدال صادق شومان
فؤاد رفقه، الأكاديمي العريق والمترجم الصوّال والشاعر الفيلسوف الذي انضوى خلف «مِحدلة الموت» أصيل سنوات سبع 1930- 2011 لم تنأ ذكراه بعيداً، ليعود حارس الكينونة «بيدر» في قراءة جديدة لميراثه الشعري كـ «شاعر مكتنز المواهب والرؤى» في إصدار عن دار نلسن للأب مارون الحايك حمل عنوان «الشاعر فؤاد رفقه من الضبابية الى النورانية»، في دراسة هي الأولى من نوعها حول الشاعر الراحل جاءت تحت باب النقد الأدبي في «هموم لا تنتهي» لكل ديوان من دواوين الشاعر فؤاد رفقه، يتتبّعه الحايك في تجواله في المسارات المتعددة التي مرّ بها من مناخات الزهد والطبيعة والتأمل والخلود والعزلة وتبصره في مسائل الفكر والفلسفة في مجمل إصداراته التسعة بدءاً من ديوانه الأول «مرساة على الخليج» الصادر آنذاك عن دار مجلّة «شعر» في ستينيات القرن المنصرم، إلى ديوانه الأخير «محدلة الموت وهموم لا تنتهي» عن دار نلسن، الدار التي تعهدت أكثر من إصدار «لكاهن الوقت».
وكتاب الأب الحايك هذا يستدعي نتاج فؤاد رفقه الشاعر حصراً، من دون ومن غير تلك الترجمات الرائدة التي حققها رفقة في الشعر الألماني والتي حاز عليها «جائزة غوته» والكثير من التكريم والتقدير الألماني، كما ملتقى المثقفين مشرقيين وعرباً، وبالأخص تلك الترجمتين الدقيقتين لمختارات من شعر ريلكه وهولدرلن. ولا تقلها فخامة تلك الإصدارات بعيد رحيله، ودائماً عن دار نلسن، تحمل عنوان مختارات شعرية تعود للروائي الألماني هِرمن هسّه.
وغالب القول إن هذه الترجمات التي تصدّى لها فؤاد رفقه وبذل الكثير من الجهد لتخرج متماسكة متينة، رغم صعوبة الكثير من المفردات والمصطلحات الهايدغرية والغامضة أو المبهمة كما يجمع بذلك الضالعون في اللغة الالمانية، دفعت بالكتاب والنقاد على تقديم فؤاد رفقه مترجماً فذاً على كونه شاعراً مبحراً في قوافي اللغة العربية محدثاً ومبدعاً، حتى أن البعض يعتبر أن رفقه الشاعر ظلم لصالح رفقه المترجم.
وفي هذا يقول الدكتور محمود شريح أحد تلامذته ومعاصريه «ليته لم يقترب من الترجمة، كنا ربحناه شاعراً متقدماً».
أما الجديد في هذا الإصدار عن فؤاد رفقه «من الضبابية الى النورانية» هو دراسة مكثفة لمجموع الإصدارات الشعرية الخاصة به والحالات التي عايشها و«اختبرها» رفقه في لحظات انخطافه الروحي من حالات التقمّص أو بما همست له مخيلته وهواجسه الوجودية والطبيعية، في صومعة سكونه الروحي ما بين الزمان والمكان. وقد أراد الأب الحايك أو أنه حاول في كتابه عن شعر رفقه أن يسلّط «الضوء عمّا عبر عنه الشاعر في دواوينه من فكره الوجودي والفلسفي واللاهوتي والروحي، واختياره الحياتي والكياني»، في استعراضه لتجليات الشاعر الراحل في كل تقمّصاته كما في «الحطاب» في ديوانه «أنهار برية» و«الشيخ الدرويش» و»الهندي الأحمر» و»الفلاح والكاهن» في «جرّة السمرائي»، والبحار في «عودة المراكب»، إلى ان أيقن الشاعر الراحل بخلود النفس و»العودة الأبدية» غير أن همومه «لا تنتهي» في غمرة تساؤلات لا نهاية لها و»حياة واحدة لا تكفي» للإجابة عليها.
لكن في هذه القراءة المعمّقة من الأب حايك لشعر فؤاد رفقه مغايرته للمألوف والسائد عن بعض الذين تناولوا أدب فؤاد رفقه على اعتبار أن نصّه أصاب من القيم والمثل العليا من لغة «غوته» الكثير بخلاف خصوصيته المشرقية، حتى بدت ترجماته الألمانية متفوّقة على تجربته في كتابة الشعر بلغته الأم، رغم أن رفقه صرح أن ترجماتي «أفادتني ومكنتني من اللغة العربية أكثر»، كما ان الترجمة «تغني عالم الشعر الداخلي ولغته». والشاعر «هو هذه الشجرة التي يستفيد من تجاربه الخاصة ومن تجارب الآخرين». وهذا تحديداً ما تجلّى في قراء الحايك لشعر رفقه فيجده «مستنبطاً عدّته» الفكرية والروحية من الأيديولوجية المشرقية ومن ينابيع الوحي وطقوسه وعاداته وتقاليده ورموزه وأساطيره». وتجلّت هذه المعايير في ديوانه «علامات الزمن الأخير» وجاءت على خلفية أسطورة الإلهة عشتار إلهة الانبعاث المفعم بالأمل في النطاق القومي الذي تنتهي اليه دمشق ويتذكّر فيها رفقه الحضارة السورية القديمة، وهو غنائية إلى «امرأة من دمشق» «عاصمة بلاد الشام» الذي آمن الشاعر بعقيدة الحزب السوري القومي الاجتماعي، بعد أن قرأ الصراع الفكري في الأدب السوري» للزعيم انطون سعاده. و»يعترف رفقه» بأنه أول كتاب قرأه وتأثّر به وشكّل أنموذجاً له للخروج من انحطاط الأمة التي دعا اليها سعاده. ومن هذا الإدراك جاءت قصيدته الى «امرأة من دمشق» من ديوان «علامات الزمن الأخير». وهي قصيدة من مستمدّة من أسطورة «الإلهة عشار» إلهة الانبعاث «المفعم بالأمل في النطاق القومي الذي تنتهي اليه دمشق». وفي هذا الديوان أيضاً يجمع رفقه «دمشق والقدس وأريحا وجلعاد في حضارة واحدة هي حضارة بلاد الشام»، كما يشير الى الأساطير التي كانت «الى الشمس بالانبعاث، وذلك من خلال إله الخصب والبعث الذي يسيطر على قوى الوجود ومنها الشمس وسقوطها إشارة الى موت الاله تموز أو أدونيس».
وها هو الشاعر يتقمّص روح «تموز» ذاته في القصيدة التي كتبها بعد حرب تشرين 1973 التي اندلعت من جبهة الجولان على الكيان الإسرائيلي.
ليختم الأب مارون حايك كتابه بكلمات الشاعر نفسه يقول:
«نحن نتجه الى عالم الشعر، وفي اتجاهنا حاولنا الوصول الى المنبع الأول. واكتشفنا أن المنبع الذي ينبع منه الشعر لا هو شاعر ولا القصيدة، إنه أفق الوجود، هذا الأفق لا يدلّ الى اية حقيقة غيبية مستقلة عن الوجود الانساني».
وبهذا الإنجاز الذي يقدر للأب مارون حايك، أعاد الى فؤاد رفقه ألقه كونه شاعراً متميزاً عاش كيانه وتحسس وجوده وتعمّق في جذوره، على قدر مكانته الكبيرة كمترجم قدير.
من قصيدة «امرأة من دمشق»
قديماً عرفتُ الحصاد
وطعم البيادر
زرعت البيارق بين الخناجر
وزغردت للفارس المعتمر
سماء البلاد
قديماً عرفت ضياء المجامر
خلي المناديل
واطلبي النائحات من أريحا
يا ابنة قاسيون
فالشوارع مقفرة
وبين الخرائب تولم الكواسر
هلّي شعرك يا صبية
واغلقي النوافذ
فالعريس جثة في الحقل
والحقل لا يعرف المواسم
والمواسم أعياد
إنه زمن الجوع
ويكمل الشاعر يبكي أرضه:
كيف أحجب صوتي
كيف أحجب الأنين
وشعبي يمامة بلا أرض
وأرض بلا سياج
وسياج بلا حديقة
وحديقة بلا مطر
من قصيدة «تموز»
راجع يا دمشق، أوقظ أيامي
وامتد سلماً للسحابه
في أراضيك، راجع صار وجهي
ثمراً للقطاف، يفتح بابه
للنواقيس، صار وجهي رغيفاً
مستديراً، وفي ثيابي إضاءة.