ناصر قنديل في «حزب الله – فلسفة القوة»
د. فيصل المقداد
ليس سراً أن أذيع عليكم أنني واكبت الخطوات الأولى التي بدأ فيها
أخي ناصر التفكير بهذا الكتاب حتى ولادته.
لقد كانت لحظات إعداد هذا الكتاب حبلى بالتحديات على أرض الواقع في بلدينا الشقيقين سورية ولبنان، كما كانت مليئة بالتحديات الفكرية والإبداعية.
وعندما ضاع الكثير في تحليل ما تمرّ به المنطقة من أوضاع غير مسبوقة في تاريخها، فإن وضوح الرؤية وطريق الوصول الى الهدف كانا واضحين في ذهن وذاكرة ناصر قنديل المتقدة أبداً، والتي لا تستكين للضعف والتراجع في أي لحظة كانت.
قد يتساءل البعض عن تقديمنا لهذا الكتاب حول حزب الله فلسفة القوة في مكتبة الأسد في قلب دمشق. وهنا يأتي الجواب من اعماق هذا الكتاب الذي وضع فيه ناصر قنديل عبق تفكيره الوطني والقومي والإنساني ليقول لك: وما الفرق بين دمشق وبيروت؟ وأستميح ناصر قنديل عذراً أذا أضفت الى ذلك. وما هو الفرق بين دمشق وبيروت وأية عاصمة عربية أخرى من المحيط الى الخليج؟ وما هو الفرق في ظروفنا الحالية بين دمشق وبيروت المقاومتين وموسكو وطهران والضاحية الجنوبية؟
ناصر قنديل، المبدع وصاحب الرؤية العميقة والتحليل السديد هو كل هذا. فهو عندما يهدي كتابه وثمرة جهده فهو يوجّهه الى كل مناضلي المقاومة وقوى التحرّر العربية والعالمية. وهكذا فإن كل من يحمل جذوة النضال من أجل حقوق شعبه هو إنسان يستحق الثناء والاحترام. وهكذا، فإنه عندما يهدي ناصر قنديل هذا الكتاب الى روح القائد الراحل حافظ الأسد وإلى بطل الأمة الرئيس بشار الأسد والى قائد المقاومة السيد حسن نصرالله ورموز المقاومة اللبنانية الآخرين والى قائد الثورة الاسلامية الامام الخامنئي والى الشهيد الأممي ارنستو تشي غيفارا والى الراحل هوغو تشافيز، فإن ناصر قنديل يؤكد ولاءه لقضية تحرّر الانسان في وطنه وأمته وللإنسان في كل مكان.
ليس بشيء جديد أن نقول: إن ناصر قنديل يمتلك الكثير من الجرأة. الأمر الذي يسمح له بالتعبير عن افكاره وحتى لو لم تعجب أكثر الناس قرباً منه، وإلا كيف كان لناصر قنديل أن يكتب عن حزب الله وفلسفة القوة لو لم يكن هو قوياً بذاته وجريئاً بذاته؟
لقد شعرت بقوة هذا الكتاب، بدءاً من السطر الأول فيه. وكل ما حاولت ان أذهب الى السطر الثاني كنت أجد دافعاً لكي أتحرّك الى ما بعده. فالسحر في هذا الكتاب يأخذ بالعقل ويستلب الإرادة لكي تصل الى النتيجة التي يرغب ناصر قنديل إيصالك إليها. لا تستغربوا أيها السادة الحضور، ما ذهبت اليه وانا الذي قرأت من الكتب، وأقرأ كل يوم مئات الصفحات، إن لم يكن أكثر، من مقالات وكتاب السياسة الخارجية الدولية وتحليلات سفاراتنا واستنتاجات كبار القادة والزعماء. فإن هذا الكتاب هو كتاب استثنائي يتناول أكثر قضايا السياسة حساسية في عالم اليوم.
انظروا مثلاً الى شبه الجزيرة الكورية وما تمّ فيها خلال الأسابيع القليلة الماضية فأين أصبح ترتيبها الإعلامي في الأخبار التي استمعتم اليها قبل مجيئكم الى هذا اللقاء؟
أما أخبار حزب الله، فهي على كل شفة ولسان عندما تتحدّث أجهزة الإعلام عن سورية وعن لبنان وعن إيران وعن اليمن وعن نجد والحجاز وكذلك عن الكيان العنصري الصهيوني، ولا نحتاج هنا الى التعمق عند الإشارة الى دور حزب الله عندما يتطرق الأمر الى القدس والقضية الفلسطينية بشكل عام.
قبل الولوج الى مناقشة أربعة جوانب سأمرّ عليها بشكل أكثر تركيز، اسمحوا لي أن أؤكد أن كل كلمة وعبارة وجملة وفقرة في هذا الكتاب يجب التمعن فيها لكي لا يستثمر ناصر قنديل ذلك لفرض رؤاه، فعندما تقرأ ناصر قنديل عليك ان تدقق في كل شيء، وتخرج انت باستنتاجاتك الخاصة، على الرغم من أنني أعتقد أنك قد تتفق بشكل كبير مع ما يذهب إليه ناصر قنديل، فهذا الكاتب لا يملي عليك أفكاره ورؤاه، بل يريدك أن تتبين أنت بالذات صحة وجهة نظره وما ذهب إليه، فهذا الكاتب الجريء بمواقفه والذي لا يحابي أياً كان بقناعاته، انما يمارس الموضوعية والحكمة في تحليله معطيات الموضوع المطروح.
يعيدنا هذا الكتاب إلى حقائق تاريخية تفرض ذاتها علينا بالمقارنة مع حالنا الراهن مع الحرب التي خاضها حلف دولي إقليمي كبير ضد سورية، والسؤال الطبيعي الذي يتبادر إلى ذهن القارئ السوري هو: هل كان الاستثمار الذي وضعته سورية في لبنان من دماء جنودها لحماية مشروع المقاومة ورعايته وصولاً للانتصارات التي حققها هذا المشروع، استثماراً مجدياً؟
نكتشف في الحرب التي يخوضها جيشنا وشعبنا كم كانت قيادة سورية حكيمة وصاحبة رؤية استشرافية وبصيرة ثاقبة. وها هي سورية في المحنة التي عرفتها قد وجدت هذه المقاومة خير حليف وشريك وأخ وصديق وشقيق، يقاسم السوريين الدماء دفاعاً عن القضية المشتركة التي لم تغب ولن تغيب عن سورية ولا عن المقاومة وهي قضية فلسطين. وبالتوازي نستحضر حلف سورية مع الجمهورية الإسلامية في إيران التي يفصل الكتاب مضامين موقعها من تجربة المقاومة وحزبها المحوري، حزب الله، وكم دارت نقاشات حول صحة وجدوى خيار القيادة في السير بهذا التحالف الاستراتيجي، وها هي الحرب على سورية تقول لنا بالوقائع كيف وجدنا الأشقاء الإيرانيين يقاسمون السوريين لقمة الخبز، وهم في حال حصار، كي لا تضعف سورية ولا ينال عدو من صمودها، ثم لم يلبثوا أن شاركونا بالدماء في تحمل تبعات هذه الحرب كتفاً إلى كتف وقلباً إلى قلب، والهدف واحد رد مشروع الهمينة الأميركية والعدوان الصهيوني والتآمر الرجعي، وبالقياس ذاته نستذكر الأصدقاء الروس الذي سجلوا وقفات شجاعة وقدموا تضحيات غالية في موقف ثابت مع بلدنا وسيادته واستقلاله.
من حق قيادة سورية على المتابع والقارئ الإنصاف في صدقية خياراتها وصوابية تحالفاتها، خصوصاً أن حروباً إعلامية وسياسية وثقافية خيضت لضرب هذه التحالفات، ليتبين لنا أن الهدف كان تجريد سورية من مصادر القوة في سياق التمهيد المخطط للانقضاض عليها، وقد أحبطتهم سورية بوضوح رؤية قيادتها لحيوية ومكانة هذه التحالفات المبدئية، من دون أن يكون في الحساب أننا سنكون يوماً بحاجة لوقوف هؤلاء الحلفاء إلى جانبنا، كما وقفنا إلى جانبهم.
ونحن نقرأ الكتاب عن فلسفة القوة في تجربة المقاومة في لبنان، تستوقفنا خلاصات تستحق أن نستذكر معها ونقارن، حيثيات وأشكال خوض سورية للمواجهة مع قوى حلف الحرب الذي استهدف إسقاطها، وسأكتفي بأربع نقاط منها:
أولاً: العلاقة بالسلطة، حيث يقدم الكتاب تميّز المقاومة برفضها جعل الإمساك بالسلطة قضيتها المحورية ما مكّنها من الثبات على عزمها كحركة مقاومة، من جهة، ومن فتح الباب واسعاً للمشاركة أمام الشرائح الاجتماعية المتطلعة نحو دور لها في السلطة، من جهة مقابلة. وأستحضر هنا كيف أدار الرئيس بشار الأسد، إضافة لما سلف بصدد التحالف مع المقاومة وإيران، مفهوم العلاقة بالسلطة، فلم يكن يوماً التمسك بالسلطة قضية، ولو كان كذلك، لكان الثمن معلوماً والطريق واضحاً. وهو الثمن الذي يسدده أغلب الحكام العرب وغيرهم من سيادة أوطانهم لاسترضاء الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأميركية، وارتضاء المكانة العليا لكيان الاحتلال الإسرائيلي في معادلات المنطقة. وكم هي كثيرة العروض التي حملها الموفدون إلى سورية أملاً بزحزحة الرئيس بشار الأسد عن موقفه المتمسك بالعروبة والمقاومة وفي قلبهما السيادة السورية، وكانوا في كل مرة يعودون خائبين، منذ دفتر شروط كولن باول إلى عشية خوض الجيش العربي السوري لمعركة تحرير الجنوب. فالمسألة هنا هي تماماً إدارة مبدئية، ترفض التنازل عن القرار السيادي المتمثل بموقع الرئاسة وسواها من الرموز الدستورية، لأن هذا التنازل يطلب كمدخل لسقوط السيادة الوطنية بيد المستعمرين الطامعين وعملائهم، ولكنها ترفض جعل السلطة بذاتها قضية تسمو على السيادة والوطن فيدفع ثمنها من رصيدهما، وكم من مرة خاض الرئيس بشار الأسد غمار هذه الأنواع من التحديات وخرج منها شامخاً مرفوع الرأس، وخرجت سورية معه منتصرة مظفرة؟
ثانياً: يرسم الكتاب معادلة لمصادر قوة المقاومة من بوابة علاقتها بالأخلاق، ورفضها اعتبار الأخلاق ضريبة تؤدى التزاماً بها، رغم ما قد تسببه من خسائر، وقد أثبتت تجربة المقاومة، ومثلها تجربة سورية، أن الأخلاق استثمار مجد في السياسة، إنها نعمة وليست نقمة. وهي وحدها التي تفسر أسرار قوة هذا الحلف الصلب المتماسك الذي انتصر لسورية وانتصرت به وانتصر معها. وبالمقابل أحلاف الأعداء تعبير عن انعدام الأخلاق في أصل تكوينها وأهدافها، لقيامها على الباطل والعدوان، ولكن في منهجها أيضاً، حيث يبيعون بعضهم بعضاً ويتآمرون على بعضهم بعضاً، بينما سورية وحلفاؤها كالبنيان المرصوص، تسقط المراهنات على تفكيك حلفائها بالترهيب والترغيب على صخرة الأخلاق التي صارت بذاتها مصلحة. فروسيا الدولة العظمى قدّمت عبر حلفها مع سورية المثال الجاذب للكثيرين الذين يعانون من التعالي والتعجرف الأميركيين، وعقلية الاستخدام والاستتباع تحت مسمى التحالف، ويريدون علامات كافية للثقة قبل أن يبدلوا خياراتهم وتحالفاتهم. فكانت سورية هي المثال الذي بدأ يغير دوائر العلاقات الدولية، ومراكز الثقل فيها، ولولا الأخلاق كمقياس مقارن بين مشروع الدولة السورية الذي تفوق بلا منازع على المشاريع التي ناصبته العداء لما انحاز إليها الشعب السوري أولاً، ومن بعده شعوب العالم وقواها الحية التي بدأت تكتشف صوابية وصدقية كون سورية تقف راس حربة في وجه الإرهاب، دفاعاً عن كل شعوب العالم بمن فيها شعوب الدول التي تورطت حكوماتها في الحرب على سورية.
ثالثاً: يصيغ الكتاب معادلة لقوة مشروع المقاومة، عنوانها القدرة على تحويل كل فائض للقوة إلى قيمة مضافة، أي المسارعة في تحويل كل نصر عسكري إلى ثمرة سياسية، لتعود المكاسب السياسية وتتحوّل إلى مصدر لتعظيم القوة وصناعة انتصارات عسكرية جديدة. وهكذا، والناظر لمسار الحرب التي خاضتها سورية، سيقع على محطات كثيرة ينطبق عليها هذا المبدأ. وقد كان العمل وفقاً لهذه القاعدة يلاقي اعتراضات في الرأي العام كثيراً من الأحيان، رغبة بالخلاص السريع من الحرب وآلامها، لكن التجربة قالت: انه لولا هذا التبادل في الحضور بين العمل السياسي والعمل العسكري، وبالتالي بين فائض القوة والقيمة المضافة، لما كنا اليوم على أبواب نصر تاريخي بينا وبينه قاب قوسين أو أدنى، وتكفي مراجعة يوميات الحرب والمسارات السياسية التي واكبتها لاكتشاف دور التسويات في تخفيض كلفة المعارك العسكرية، وكيف مهدت لانتصارات سرعان ما فتحت الباب لتسويات، وتلتها انتصارات.
رابعاً: يضع الكتاب معادلة للعمل السياسي قوامها المهارة والكفاءة في إدارة تفاهمات تكتيكية مع خصم استراتيجي وإدارة خلافات تكتيكية مع حلفاء استراتيجيين، ويرى فيها معيار البراعة ووصفة النصر، وكم تاهت قوى وحكومات في مثل هذه الإدارة، فخسرت حلفاء استراتيجيين طمعاً بتفاهمات تكتيكية مع خصوم استراتيجيين، أو أضاعت فرصاً لتسويات تكتيكية مع خصوم استراتيجيين، فدفعت كلفة حروبها مضاعفة. وقد أظهرت القيادة السورية سياسياً وعسكرياً براعة وأهلية على درجة عالية من التفوق. فطبيعي أن تعرف حرب بحجم الحرب التي عشنا يومياتها الصعبة محطات ومطبات، تعرض فيها تسويات تكتيكية مع خصوم استراتيجيين، وتعترض الطريق خلالها تباينات تكتيكية مع حلفاء استراتيجيين. وخرجت سورية من المحطات والمطبات أشدّ قوة وحلفها أشدّ تماسكاً، والخصم الاستراتيجي هو كل مَن لا يحترم قواعد السيادة، والحليف الاستراتيجي هو كل من ينطلق من احترام معايير السيادة وموجباتها، والمعيار هو الأفعال وليس الأقوال. هذا صحيح بالنسبة لمسار أستانة وصحيح لمسار جنيف، لا مساومة على السيادة ولو استمرت الحرب عشرات السنوات، ولا مساومة على وحدة سورية ولو كانت كلفة الحرب عشرة أضعاف.
اسمحوا لي، قبل أن اختتم حديثي عن كتاب حزب الله فلسفة القوة أن الفت انتباهكم الى أن هذا الكتاب انما جاء قطعة ثمينة من الأدب بكل أنواعه والثقافة والسياسة والتاريخ والعلم.
وهذا يعني أن مضمونه متاح لكافة فئات المجتمع المهتمة بالقراءة والمعرفة.
لقد ذكرت أن كلام ناصر قنديل في هذا الكتاب ينساب كالمياه الصافية الرقراقة في أنهار ساحرة جميلة لا نهاية لها. فالفكرة التي يريدها المؤلف تتدحرج بين يديك بسهولة ويسر، فتريد تلقفها والاحتفاظ بها، فأنت تنتقل من جوهرة الى أخرى، فتشعر أنك تملأ رأسك وجيوبك بأحلى الدرر التي ستحرص على أن لا تضيع منك. فكل كلمة على لسان ناصر قنديل لها معنى، وهي في موضعها من الكلام لا يمكن أن تكون في مكان أو فصل آخر. وأكثر الكلمات التي لفتت انتباهي وأنا أقرأ ناصر قنديل هي كلمات مثل الذهول والدهشة التي استخدمها للإشارة الى الإنجازات التي حققها حزب الله بفضل فلسفة القوة عندما حرر حزب الله جنوب لبنان في عام 2000. عندما انهزمت «إسرائيل» من جنوب لبنان الى غير رجعة ودون قيد أو شرط، الأمر الذي تكرر لاحقا في عام 2006. كما أبدع ناصر قنديل في ربط جميع محاور كتابه ببعضها حيث أراح القارئ عن البحث عما يربط الأبواب والفصول مع بعضها البعض.
ولا يترك الكاتب عقد دون حلها وإيضاحها فهو ينقلك على سبيل المثال من خلفية تأسيس الحزب مروراً بما أسماه الحلقة الصعبة الى الحلقة المتعبة والحلقة المستحيلة والحلقة المفقودة بكلام واضح ومقنع ومفهوم.
بمثل ما تقدم تجربة المقاومة صواب الاستثمار على ما أسماه الكتاب فلسفة القوة، في الكثير من العناصر الأخرى التي عرض لها من الجغرافيا والتاريخ والديموغرافيا، وأهمها التماثل بين شخصية القائد والمبادئ العليا للدولة أو للحزب السياسي، تقدّم تجربة الحرب على سورية، والنصر العظيم الذي تصنعه سورية دليلاً حياً إضافياً على هذا المفهوم لفلسفة القوة، لكنها ربما في درجة التماثل في مصداقية انطباق هذه العناصر على كل من المقاومة وسورية، تعطينا التفسير لسر هذه العلاقة الاستثنائية التي تربط سورية بالمقاومة وتربط المقاومة بسورية.
نائب وزير الخارجية السورية