التشجيع نصف الإبداع…
معظم الأهالي يجتهدون في قتل حبّ الحياة في نفوس أبنائهم لكونهم لم يعوا أنّ أهم شروط عمران النفس هو سد حاجة العيش من التقدير لدعم تكوين صورة صحيحة عن ذواتهم..
من ينهال على ولده سباً وضرباً أيّ منتج بشريّ يتوقع بعد معاملة كهذه؟ إنّ كثيراً من مواهب الأبناء اندثرت، وكثيراً من النبوغ تلاشى، لأنها لم تجد من يؤمن بها، ولم يضعها على الطريق الصحيح.
مقطع موسيقى نشر على اليوتيوب لـ هوبكنز الذي كان قد ألّف سيمفونية بعمر التاسعة عشرة، لكنّه أخفاها لخجله من مستواه في الموسيقى آنذاك، إذ كان هذا الرجل يفتقر لصائب الرؤية الضرورية لتقدير موهبته، ولم يكن يملك من يشجعه على موهبة غارقة في الإبداع كهذه. فنسي أو تناسى حلم الموسيقى واتجه إلى التمثيل. بعد خمسين عاماً، تحققت أمنية هوبكنز حين التقى من شجّع موهبته وقدّم اللحن بأحد أعرق مسارح الدنمارك، وهو الفنان العالمي وقائد الأوركسترا الشهير أندريه ريو ، والذي قال بعد عزفه الفالز لمؤلفها هوبكنز إنّ يوهان شتراوس آخر قد ولد فصفّقوا له.
هذا الشخص البارع الذي أضاع خمسين خريفاً من عمره وحرمنا الكثير من المقاطع الموسيقية، فقط لأنّ أحدهم لم يربت على كتفه في عمر مبكر، ويقول له: يا لك من عازف بارع!
منذ سماعي هذه المقطوعة الموسيقية وأنا أفكر كم من المواهب دفنا وكموطئة للسعي، شرعت في تدوين أمنيات قبل الرحيل علّ يوماً ما سيكون شاهداً على ولادتها أهمها القفز بالمظلّة. فالأيام حبُلى بالهدايا والمؤن الربّانية التي قد تكون على شاكلة حدث مفرح وتحقيق رغبة أو هواية حلمنا بتحقيقها منذ الصغر علّ أحدهم يربّت على كتفنا ويقول لنا: أنت قادر على فعل ذلك. هناك الكثير من المواهب المدفونة والتي ما إن تبرق في مخيلتنا تتيح لنا عدم الانفصال عن الحياة بطلاق بائن، لكنّها لا ترتقي بنا روحياً في ديمومة السمو. فهي نوع مؤقت من العتاق من أسر الحياة شبيه بالطلاق الرجعي. والمفرح أنّ العصمة في يد صاحب الموهبة فمتى استشعر الأمان والدعم اكتفي بالمضي في الطريق من دون نيّة الطلاق من مواهبه مطلقاً.
كم تزعجني تصرفات الكثير من الأهالي الذين إذا اشترى ابنهم كتاباً قالوا له: لو اشتريت قميصاً أو حلوى. بدل ان يشجعوه ويشتروا هم الكتب له، يحطمّون موهبته في الاستطلاع والقراءة ويكسّرون مجاذيفه، ثمّ يقولون عنه لاحقاً، إنّه لا يحلق عالياً كأولاد الناس، ولا يبحر عميقاً كفلان وفلان. وكيف تريدونه أن يحلّق وقد قصصتم جناحيه، ووأدتم فيه مواهب كان يتوجب أن تنمّوها لا أن تئدوها. لماذا يصّر الأهل أن يعيشوا حياة أولادهم بدلاً عنهم؟ لماذا يسرقون أحلامهم ويحققون أمنياتهم من خلالهم؟ هذه أنانية وإن كانت بدافع الحب ولا شك عندي بوجود الكثير من الحب لكن لا توصلوه إلى الحب القاتل.
ليس هناك أقسى من وأد الأحلام والمواهب، آمنوا بأولادكم، ازرعوا في أجنحتهم ريشاً جديداً بدلاً من اقتصاصها حتّى ولو كانت موهبتهم في شيء لا تؤمنون به. فالأيام كفيلة بالتحقق من ذلك…
صباح برجس العلي