لماذا «الإقليم» في خدمة العقد الداخلية؟
د. وفيق إبراهيم
اتهامُ العامل «الإقليمي» بنصب العقد الداخلية المانعة لتشكيل حكومة جديدة وفق موازين القوى الانتخابية مسألة أكيدة.. لكنه لم يخترعها.. بل بنى عليها، مسهماً في تأزيمها إلى حدود منع التشكيل ودفع البلاد نحو احتمال الانهيار السياسي والاقتصادي.. ولولا المظلة الدولية الراعية «حتى الآن» للاستقرار الداخلي بحدوده الدنيا لكان لبنان في وضع آخر.
ما هي هذه العقد الداخلية؟
هناك أولاً الصراع على القسم الجنوبي من جبل لبنان الذي أمسك به وليد جنبلاط مستغلاً الوجود العسكري السوري في لبنان كنعان وغزالة الذي عممه بشكل مطلق منذ ثمانينيات القرن الماضي. فأحكم هيمنته على كامل المقاعد النيابية للدروز باسثتناء مقعد ارسلان مستولياً أيضاً على مقاعد كثيرة للمسيحيين في الشوف وعاليه وبعض السّنة.
وكان لا بدّ للعونية السياسية الحاملة لواء تصحيح تراجع الدور المسيحي في الدولة، أنّ تقود معركة تحرير الجزء الجنوبي من الجبل. لا سيما أنّ المهجرين المسيحيين منه في معارك الثمانينيات مع اشتراكيي جنبلاط وحلفائهم لم يعودوا بشكل فعلي، على الرغم من صيحات زعيم المختارة الذي يصّر على اتفاقه مع البطريرك السابق صفير المدعوم من الرئيس ميشال سليمان على فكرة أنّ المصالحة تمّت بين الدروز والمسيحيين في جبل لبنان.
والحقيقة أنّ الدولة لم تعُد بعد إلى جبل لبنان الجنوبي الذي يخضع لقيادة جنبلاط واشتراكييه. ما يمنع من تحقيق عودة مسيحية حقيقية إلى هذه المنطقة.
العقدة الثانية تتجسّد برفض حزب القوات اللبنانية الاعتراف بأن التيار الوطني الحر استطاع في الانتخابات النيابية الأخيرة تأكيد أنه القوة المسيحية الأساسية في لبنان. فيعتبر أنصار جعجع أنهم هم الذين أتاحوا لعون فرصة الوصول إلى رئاسة الجمهورية، مطالبين تدريجياً بنصف المقاعد الوزارية المخصصة للمسيحيين قبل أنّ يتراجعوا إلى حدود الإصرار على أربعة مقاعد بينها نيابة رئاسة الحكومة وبعض الوزارات السيادية.
وهذا الصراع يتقمّص شكل القتال على المقاعد، لكنه يخفي في عمقه قتالاً على زعامة المسيحيين وهوية الرئيس المقبل للجمهورية، فيحاولون بهذه الطريقة إبعاد رئيس التيار جبران باسيل عن الرئاسة المقبلة التي يعمل من أجلها بشكل حثيث. لا بأس هنا من الإشارة إلى أنّ جعجع وزوجته هما أكثر شخصيتين سياسيتين لبنانيتين تزوران السعودية دورياً. وتطلب الرياض في المقابل من حلفائها الحريريين في لبنان الالتزام بمطالب «الحكيم» والتحالف العميق معه إلى جانب الوزير جنبلاط الذي يحطّ في السعودية مع فريق عمله عند كل استحقاق داخلي في لبنان مُدبجاً، قصائد عصماء في حكمة الملك سلمان وولي عهده، ومسدداً على سورية كل أنواع الاتهامات للتعبير عن الولاء الإقليمي لآل سعود.
أما الصراع الأكبر فعائدٌ إلى أنّ الحريرية السياسية التي انطلقت منذ 1992 بعد اتفاق الطائف، استولت على القرار السياسي اللبناني قيادة الحكومات المتعاقبة على حساب تراجع الدور المسيحي، فأصبح رئيس الجمهورية تابعاً لمجلس وزراء تسلّمه المرحوم رفيق الحريري بصلاحيات دستورية واسعة، وعلاقات إقليمية ودولية واسعة، لم يحظَ بها أي رئيس وزراء من قبل، وشملت أيضاً الدور السوري في لبنان، ما أدّى إلى تنامي الهجرة عند المسيحيين المطوّقين من الحريرية من جهة والجنبلاطية من جهة أخرى، انضمام القوات اللبنانية والبطريرك صفير إلى هذا التيار من جهة ثالثة بضغوط أوروبية وأميركية.
أما الثنائية الشيعية فركّزت على الدور الإقليمي ولم تعبأ بتحسين وضع طائفتها في مراكز القوة في النظام السياسي اللبناني. فاكتفت بخدمات لصالح عصبيات منها وسّعت بها نفوذها الخاص والسياسي.
وما فاقم من حدة هذه العقد أنها ترتكز حالياً على نتائج انتخابات حديثة أدّت إلى تراجع فريق الحريري مقابل صعود قوة الثنائية الشيعية وحلفائها.
تكشف هذا المقاربة أنّ العقد ليست إلا ستاراً لصراع عوني مع الحريرية والجنبلاطية حول هوية القوة التي تُمسك بإنتاج القرار في لبنان. وهذا صراع تتداخل فيه السياسة الداخلية بالمذهبية والاقتصاد والعلاقات مع الإقليم و»الدولي».
فالمرحوم رفيق الحريري لم يتمكّن من الإمساك بالبلاد بقوته الداخلية.. بل ربطها بعلاقاته الإقليمية والدولية التي أنتجت رئيس وزراء له إمكانات جمعت في حينه كل مصادر القوة في النظام السياسي اللبناني ومستنداته الإقليمية.
ماذا يريد الإقليم من لبنان؟
استناداً إلى الصراع السعودي ـ الأميركي مع الحلف الإيراني ـ السوري، فإن هناك تجاذباً حاداً بينهما للإمساك بالحكومة المرتقبة.. الفريق السوري ـ الإيراني المرتاح إلى نتائج الانتخابات الأخيرة يؤيد حكومة تتكئ على نتائج الانتخابات، لذلك ليس له مصلحة بعرقلة تشكيلها. فأحلافه في الداخل لهم قوى وازنة وتحالفاتهم مع الفريق العوني راسخة، ليس لأسباب أيديولوجية بل لأنه ملمُّ بعمق الخلاف العوني ـ الحريري والعوني الجنبلاطي.. ويعرف أنّ أي تنازل في هذا الصراع يجعل الآخر مستبعداً.. فجعجع يعيش في كابوس الخوف من وصول جبران باسيل إلى الرئاسة.. الأمر الذي يعني انهياراً كبيراً لحزب «القوات».
وجنبلاط بدوره يخشى على زعامته للجبل التي تجمع بين غالبية الدروز وقسم من المسيحيين وسّنة الإقليم.
أما القسم الآخر من الضغط الإقليمي فهو سعودي ـ أميركي، منزعج من خسارته في سورية واليمن.. ومذعور من إمكانية تقدم دور حزب الله في لبنان، فيبني سياسات مع فريقه اللبناني على أساس تشكيل حكومة فيها آلية تعطيل تخدمُ فريقه الداخلي المكوّن من الحريري، القوات، الاشتراكي،.. مع الإصرار على إيلاء حزب الله حقائب ثانوية لا تُعزّز دوره الداخلي.. وذلك لإحداث صدع بين الحزب وجمهوره الداخلي المحتاج إلى كل أنواع الخدمات بعد سنين من الصبر والدعم للدور المقاوم للحزب في الإقليم.
أما كيف يمارس الفريق السعودي ـ الأميركي ضغوطه فهي بكل تأكيد في لعبة توزيع المقاعد والحقائب والدفع باتجاه التشكيل الميثاقي ـ العرفي وليس على أساس نتائج الانتخابات، وإلا فالمراوغة ومنع التشكيل بانتظار استحقاقات إقليمية ودولية، من بينها الحرب الاقتصادية الأميركية ـ الخليجية على إيران والحرب الاقتصادية الأميركية على روسيا والصين وتركيا والاتحاد الأوروبي، وهذا يتطلب انتظاراً ربما تطول مدته إلى أشهر وسنين.. فهل بإمكان لبنان الاستمرار السياسي من دون حكومة؟
حكومات لبنان هي اتفاقات إقليمية على تحاصصات مذهبية لا تفعل إلا زيادة الدين العام وترعى الفساد وتمارسه. لكنها تجسّد في الوقت نفسه استمراراً للدول.. لذلك فالتعطيل السعودي ـ الأميركي بتحريض الداخل يؤيد إلى التلاعب بالمسقبل السياسي للبلاد.
فأين يوجد رئيس حكومة لا يأبه لمصالح بلاده، فيهاجم إيران بلا سبب، مؤكداً أنه لن يزور سورية التي يحتاج إليها لبنان اقتصادياً وسياسياً، ومهاجماً كندا لأنها تدخلت في الشؤون السعودية.. أهذا موظف سعودي أم رئيس حكومة لبنان؟
لذلك يحتاج الوضع المأزوم إلى وقفات شجاعة من كل الأطراف الداخليين لإقناع مصادر قوتهم الإقليمية والدولية بالسماح بحكومة متوازنة تمنع الانزلاق نحو الهاوية..
فهل يتجرأ اللبنانيون وخصوصاً الحلف السعودي ـ الأميركي على مكاشفة الرياض وواشنطن بضرورة حكومة تمنع الانهيار؟ وهذا يتطلب وجوداً قوياً لحزب الله والأحزاب الوطنية والقومية والمستقلين من الطوائف الذين تمرّدوا على الوصاية المذهبية في المشاركة في إدارة البلاد.