رواية «العمى»… مقاربات لواقع حيّ مصاب بالدهشة!
لوريس فرح
صار الوقوف على حدود الكلام واجباً مقدّساً بعد السقوط في هوة الفراغ لاسترجاع أنانا الضالة استهلالاً. وليس لأن الكلام عبثيّ والقراء قليلون، وإذا كان هناك من يعتقد بأن تكلفة التعليم كبيرة فتجب عليه معرفة تكلفة الجهل أيضاً! الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماغو صاحب رواية «العمى»، وعلى الرغم من كثرة الدال والمدلول في مرويّته، كان يدرك أن خلاصتها تكمن في الجملة أعلاه!
فالرواية لم تكن عادية كالروايات التي تعوّدنا مرورها لملء وقت عابر، وسرّها في دالها الأوحد بأنها لا تمثل زمناً أو مكاناً بعينه، لتحال نحو مداخل السيرة الموثقة ـ إنما خرجت منزّهة من محيطها ـ بل جاءت كإسقاط تام وشامل على ما يدور في ساحة العالم ككل، وما يحدث في عالمنا العربي على وجه التحديد، وهذا تأصيل أولي لما بدأت به فاتحة المقال.. «العمى» صوّرت وبطريقة فذة الحال الذي ستنتهي إليه الشعوب إن فقدت بصيرتها والتي جاءت بفقدان البصر كتشبيه لها.. حيث إنها تنقل بالتواتر أحداثاً لمدينة مجهولة المكان والزمان، تعاني من فقدان البصر الذي حل عليها بشكل وباء، بدأ يجتاح أهل المدينة رويداً.. رويداً.. ولأسباب مجهولة لم تستطع السلطات الكشف عن خلفيّاتها، لتستحيل الحياة وترتسم تفاصيل دقيقة وواقعية حالة الفوضى والذعر والتخبّط والألم والأذى التي ينتهي إليه شخوص الرواية جراء هذا العمى المفاجئ! هذا عدا ما لحق بالمدينة بكاملها من الدمار، حيث انهارت على الصعد كلها، أخلاقياً واجتماعياً واقتصادياً وروحياً عن بكرة أبيها.. بل وذهب المقال بها لتعود إلى بدائيتها وهمجيتها بعد أن أصبح كل شيء مشاعاً واستبيحت حرمة كل ما فيه..
أبعاد هذا العمى كانت أكثر بكثير من عمى البصر. وهنا يكمن في سر إسقاطي لها على مجتمعاتنا التي تعاني عمى البصيرة. وبمعنى آخر العمى الفكري الذي أحيل سببه للجهل الذي يجتاح كل ذرة فينا، في محاولة لحذف كلمة «وعي» من قواميس رؤوسنا، إذ إننا بتنا بعيدين أشدّ البعد عن التفكير والوعي والتعقّل. وما يترتّب على ذلك من تفكّك وانحلال في بنية المجتمع..
مأساة شخوص الرواية تمثل واقع مأساتنا كشخوص في هذا المجتمع. وكما هي الحال في الرواية كان الحال على الأرض، فبعد أن فقدت الناس بصيرتها، تاهت في تخبطها وضياعها وجرّت نفسها إلى التهلكة.. تبين الرواية من خلال مجموعة من الأشخاص المصابين، أنه وعلى الرغم من هول ما يمرّون به إلا أنهم في نهاية الأمر انتهوا إلى صيغة تجمعهم معاً عن طريق التعاون بينهم والتنظيم لصالح المجموعة بدلاً من الفرد للوصول لأفضل نتيجة ممكنة في مثل هذا الوضع المأساوي.. وهذا مؤشر جيد على أن الإنسان بفطرته رغم كل ما وصل إليه من حماقات وتهور إلا انه في أكثر اللحظات حرجاً قادر بطريقة ما على التصرف بفطريته الجيدة، وأن يضع يده في يد عدوّه إن تطلّب الأمر في سبيل إعادة المركب الذي يحملهم جميعاً إلى شاطئ الأمان. أما عن الشخصية الوحيدة في الرواية والتي لم تصَب بالعمى لأسباب أيضاً مجهولة وهي زوجة الطبيب، فقد كانت بمثابة شعلة أضاءت عمى أرواحهم بحكمتها إلى أن أوصلتهم إلى بر الأمان في آخر الأمر، من مبدأ حتى لو كانت الجماعة صغيرة على مستوى مدينة مصابة بكاملها، لكن استطاعت وضع بصمتها في هذا الوجود الفوضوي.
ولو لأفراد قلّة. وهذا مؤشر آخر على أن الأمور من الممكن أن تتجه نحو الأفضل في حال وجد متعقلون مبصرون بيننا. وكم نحن بحاجة إلى الكثير من هذه الشخصيات في وضعنا الحالي علّ وعسى تستطيع السير بنا إلى النجاة بهذا الكم من التشتّت والجهل الذي أصابنا كمجتمعات. فكل ما زاد عدد المتنورين بالتأكيد سيتناقص عدد العميان لا مجال.
في رواية العمى استخدم ساراماغو كل الوسائل الأدبية الممكنة ليجعلك تعيش تجربة العمى المفاجئ، ولا أعني هنا أن تتقمّص شخصيات الرواية، بل أنت بالفعل عن طريق الوصف الدقيق والمثير تنتقل بحق الى عالم الرواية. وفي نهاية الرواية وبعد أن عشنا معه الدمار الذي ألمّ بالمدينة وكل حالات القبح التي انتهوا إليها والمحاولات الجيدة، إلى أن أمكن القول في تلك المجموعة إلى التكاتف بينها. أنهى الكاتب روايته بعودة البصر إلى الجميع أيضاً رويداً، رويداً، وكأنه كابوس فظيع جثم على أحلامهم لبرهة، ليعوا مدى فظاعة ما هم في طريقهم إليه إن استمروا على حال الجهل الذي يتلبّس عقولهم وقلوبهم. وترك تقييم الحلم لهم بعد أن استفاقوا على خيبة ما فعل تخلّفهم بهم من دمار، لنقف الوقفة ذاتها بعد أن فقدنا فرصة ان نكون بحلم أيضاً كحال شخوص الرواية.. فنحن عدنا حقيقة إلى بدائيتنا، والتي قضت على كل حضارة احتجنا لقرون للوصول إليها.
هل الوقت في صالحنا؟ هل هناك فرصة لإيقاف شلال الفظائع التي نرتكبها في كل دقيقة تمرّ؟ هل سنعي أن عمانا ما هو إلا وهم ونحتاج فقط إلى المعرفة والوعي لنعود إلى الدرب الصحيح؟
الرواية أكثر من رائعة، وجسّدت بالفعل ما عجز الكثيرين عن تجسيده في محاولات لتوضيح صورة الواقع وحقيقته…
من خلال النداء: «عسى أن ننتهي كما انتهت ونعود إلى رشدنا».