معضلة تشكيل الحكومة اللبنانية… ومصيبة النظام الطائفي

حسن حردان

طوى لبنان شهره الثالث منذ تكليف الرئيس سعد الحريري تشكيل الحكومة اللبنانية الجديدة على أثر استشارات نيابية أجراها رئيس الجمهورية العماد ميشال عون في قصر بعبدا في أعقاب انتخابات نيابية أجريت على أساس النسبية في 15 دائرة والصوت التفضيلي في القضاء للمرة الأولى في تاريخ الانتخابات اللبنانية.

في الشهرين الأول والثاني قيل إنّ العقد التي تعترض التأليف إنما هي عقد محلية المنشأ لا شأن للعامل الخارجي فيها، وكاد الكثير من اللبنانيين يصدّقون ذلك، انطلاقاً من حدة الصراع الناشب بين الكتل النيابية على الأحجام ونسب التمثيل في الحكومة ونوعية الوزارات التي يريدها كلّ فريق نيابي…

غير أنه مع الوقت وفي الشهر الثالث بدأت تنقشع الغيوم وتظهر الحقيقة بأنّ العقد المفتعلة في تضخيم الأحجام ووضع الفيتوات على تمثيل كتل نيابية أفرزتها نتائج الانتخابات والتمسّك بالاستئثار واحتكار التمثيل من قبل البعض كان في جزء منه من أجل التمويه على العامل الأساسي الذي يقف عقبة أمام تشكيل الحكومة وهو العامل الخارجي، مع عدم نفي وجود صراعات داخلية وتنافس حادّ على الحصص في الحكومة الجديدة ومحاولة البعض عدم التسليم بنتائج الانتخابات. والأمر لم يعد مجرّد تحليل سياسي بل إنّ الرئيس المكلف الذي كان ينفي وجود أسباب خارجية تعرقل إطلاق عملية التشكيل اعترف بذلك في سياق وضعه شرطاً جازماً عندما قال، إذا ربط تشكيل الحكومة بأن يرد في البيان الوزاري شرط إعادة التواصل مع الدولة السورية فلن تشكل الحكومة… هذا الكلام يؤكد أنّ العقدة الأساسية التي تجمّد تشكيل الحكومة ليست محلية الصنع، إنما هي من صنع الخارج الأميركي السعودي الذي بما لديه من سلطان على فريق 14 آذار، وتحديداً الرئيس الحريري، يرهن تشكيل الحكومة بالإبقاء على لبنان تحت الوصاية السياسية والاقتصادية والمالية الأميركية… ويبدو أنّ تبعية فريق 14 آذار لكلّ من واشنطن والرياض هي التي تدفعه للرضوخ إلى طلبات وإملاءات الوصي الأميركي السعودي الذي يستهول تشكيل حكومة لبنانية لا يحظى فيها الفريق الموالي له بالأغلبية، لأنّ حكومة من هذا النوع تكون فيها القرارات من صنع القوى المعارضة للسياسة الأميركية السعودية تعني:

أولاً: إنّ صياغة السياسة الخارجية اللبنانية لم يعد يتحكم فيها فريق 14 آذار وامتداداته الخارجية التي تريد للبنان أن يبقى في خانة التبعية للسياسات الأميركية السعودية التي تسبّبت بالقطيعة مع سورية وإلحاق الأذى الفادح بمصالح اللبنانيين قبل السوريين، وإحداث شرخ عميق في العلاقات بين الدولتين، والضاربة جذورها في التاريخ والمصير المشترك وصلات القربى والجغرافيا الحاكمة، كما قال الرئيس ميشال عون، وكذلك المصالح الاقتصادية… فلبنان من دون الانفتاح على سورية يختنق اقتصادياً وتتفاقم أزماته، وهو ما يحصل حالياً… فلبنان بأمسّ الحاجة للوصول إلى الأسواق العربية في الأردن والخليج، إضافة طبعاً الى السوقين السورية والعراقية، كما هو بأمسّ الحاجة إلى حلّ أزمة النازحين السوريين بتسهيل عودتهم الكريمة والسريعة إلى مدنهم وبلداتهم وقراهم في سورية والتي تحرّرت من سيطرة الإرهابيين… ومع ذلك يجري الضرب عرض الحائط بكلّ ذلك ويتمّ ربط تشكيل الحكومة بشرط عدم عودة الاتصالات الرسمية بين لبنان وسورية، في وقت بدأ العديد من الدول الغربية والعربية، التي شاركت في الحرب على سورية، تفتح خطوط الاتصال معها تمهيداً لإعادة العلاقات.. على أنّ البعض لم ينتظر عودة العلاقات الرسمية فسارع إلى إعادة جريان المياه إلى العلاقات الاقتصادية والتجارية ومثال على ذلك الأردن والعراق، أما الدول الغربية فإنّ مسؤوليها الأمنيين يتسابقون في التواصل مع نظرائهم السوريين أملاً في فتح مسارات التنسيق المشترك لمواجهة خطر انتشار الإرهابيين الذين بدأوا بالعودة من سورية إلى الدول التي جاؤوا منها بعد هزيمتهم، ومنها الدول الأوروبية…

يؤشر ذلك إلى أنّ الوصي الأميركي السعودي يريد رهن عودة المياه الدافئة بين لبنان وسورية الى مجاريها بشروطه السياسية وبتوقيت يخدم مصالحه هو، وليس بتوقيت ينطلق من مصالح لبنان واللبنانيين… تماماً كما يرهن تسهيل عودة النازحين بالتسوية السياسية في سورية. ولا يمكن تحقيق هذه الأهداف الأميركية السعودية إذا تمّ تشكيل الحكومة اللبنانية الآن لأنه لن يكون بمقدوره منعها من اتخاذ قرارات إعادة فتح قنوات التنسيق والتواصل الرسمية مع الحكومة السورية لكون الغالبية الحكومية لن تكون تابعة لواشنطن والرياض، خصوصاً أنّ هذه الغالبية النيابية بدأت منذ الآن الاتصال بالقنوات الرسمية السورية لتسهيل عودة النازحين التي بوشر بها، وإعادة الدفء إلى العلاقات الثنائية، وهو ما تجسّد أخيراً في اتصال الرئيس ميشال عون بالرئيس بشار الأسد، وكذلك اتصال قائد الجيش العماد جوزاف عون برئيس أركان الجيش السوري.

ثانياً: إنّ السياسات الداخلية الاقتصادية والمالية والاجتماعية لن يكون بمقدور فريق 14 آذار التحكم فيها كما في السابق، وسيكون وضعه في الحكومة المقبلة شبيه الى حدّ ما بوضع فريق 8 آذار في ظلّ الحكومات التي شكلت بعد جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري. ويبدو أنّ فريق 14 آذار، لا سيما تيار المستقبل، بات يشعر بأنّ خسارته الغالبية النيابية والحكومية أفقدته القدرة على الاحتفاظ بهيمنته على السلطة التي كانت تتيح له حماية وتأمين مصالحه الاقتصادية والمالية واستطراداً استمرار سيطرته على مفاصل القرار الاقتصادي والمالي… خصوصاً أنّ فريق رئيس الجمهورية وحزب الله والأحزاب الوطنية يريدون العمل على إحداث بعض التغييرات في السياسات الاقتصادية والمالية والاجتماعية من ناحية، وإعادة إطلاق دور أجهزة الرقابة والمحاسبة في الدولة، والذي جرى تعطيله خلال العقدين الأخيرين من ناحية ثانية. والهدف من إعادة إحياء دور أجهزة الرقابة والمحاسبة وضع حدّ لاستمرار الهدر والفساد لا سيما الصفقات والتلزيمات التي تتمّ بالتراضي.

انطلاقاً مما تقدّم فإنّ عدم ترجمة نتائج الانتخابات النيابية بتشكيل حكومة تعكس هذه النتائج يؤشر بوضوح إلى سعي فريق 14 آذار وبتحريض أميركي سعودي للانقلاب على هذه النتائج وتعطيل مفاعيلها، وبالتالي عدم القبول بتأليف حكومة تفقده القرار السياسي والاقتصادي والمالي وتجعل هذا القرار بيد فريق لبناني غير تابع للسياسة الأميركية.

على أنّ ذلك كله يكشف الوجه الآخر من أزمات لبنان الدائمة والمستمرّة، والكامن في النظام الطائفي المبني على المحاصصة والتوزيع الطائفي، والصراع الذي ينشب نتيجة ذلك، مما يتيح للخارج التدخل والتأثير في مجريات تشكيل الحكومات وصوغ السياسات الخارجية والداخلية. هذا النظام الطائفي، الذي هندسه المستعمر الفرنسي قبل رحيله العسكري، يشكّل المصيبة الدائمة التي تبقي لبنان خاضعاً للتدخلات الخارجية في شؤونه الداخلية وتمنع استقراره. إذا لم يكن هذا الاستقرار يقوم على القاعدة التي تخدم المصالح الغربية فإنه سيبقى عرضة للاهتزاز. هذا ما حصل ويحصل منذ عام 1943 وحتى اليوم… وما لم يتحرّر لبنان من هذا النظام الطائفي فلن ينعم بالاستقرار الحقيقي وسيبقى ينتقل من أزمة إلى أزمة وبالتالي في حالة من الاضطراب وعدم الاستقرار…

كاتب وإعلامي

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى