عزل غزة أم اعتزال القضية؟

د. عصام نعمان

عزل غزة عن مصر قائم منذ عهد حسني مبارك، وما يقوم به حالياً عهد عبد الفتاح السيسي هو عزل مصر عن غزة، هل هو مقدمة لاعتزال مصر قضية فلسطين… أو ما تبقّى منها؟

عزل غزة جرى بأساليب عدة: التحكّم بالمعابر، التحكّم بانتقال الأفراد والجماعات، التحكّم بالتبادل التجاري ومفرداته وبالغذاء والدواء، منع وصول السلاح والعتاد، وتوسيع شقة الخلاف بين حكومتي غزة ورام الله.

صحيح أن بعض ضباط الجيش المصري غضّوا النظر، بعلم مبارك أو من دون علمه، عن قيام تنظيمات المقاومة الفلسطينية في غزة بحفر أنفاق تربط القطاع بسيناء ما مكّنها من نقل أسلحة وصواريخ ورجال وعتاد وسلع ومواد عبرها بانتظام. لكن المفارقة اللافتة أنه مع انهيار نظام مبارك عقب ثورة «25 يناير» 2011 اشتدت رقابة القوات المسلحة المصرية على المعابر وانتقال الأفراد والمواد والأموال عبرها، بل كادت الحركة عبر الأنفاق تتوقف بعد حرب «إسرائيل» الأخيرة على القطاع هذا العام.

عملية عزل غزة تعاظمت أخيراً بقيام السلطات المصرية بتدابير من شأنها عزل مصر عن القطاع بإقامة شريط بري عازل في منطقة رفح بطول 13 كيلومتراً وعرض لا يقل عن 500 متر ما يؤدي إلى قسمة المدينة المصرية الفلسطينية المتداخلة إلى جزءين، وإقامة خندق مائي وراءه للحؤول دون حفر أنفاق تربط القطاع بسيناء، ناهيك عن تدمير ما تبقّى من الأنفاق التي بوشر بإزالتها في بداية عهد محمد مرسي، والتشدد في إغلاق البحر لإحكام الطوق على القطاع من جميع الجهات.

رافقت هذه التدابير القاسية حملة إعلامية مركّزة على المقاومة الفلسطينية في غزة عموماً وحركة «حماس» خصوصاً. القائمون بالحملة ينتمون إلى نظام السيسي كما إلى أوساط مبارك. غايتهم تأجيج اتهام «حماس» بأنها حركة «إخوانية» وأنها تدعم الإخوان المسلمين على جميع المستويات وبالتالي توفّر السلاح والعتاد للتنظيمات الإرهابية التي تعتدي على الجيش المصري في سيناء، كما على المنشآت الاقتصادية الحيوية ومنها خط الغاز المصري الذي كان يموّن «إسرائيل» والأردن.

صحيح أن تدمير الأنفاق وإقفال المعابر وإغلاق البحر في وجه الفلسطينيين في قطاع غزة ليس نهاية العالم، وأنه في مقدور تنظيمات المقاومة التزوّد بالسلاح والعتاد بطرق شتى، لكن ذلك كله يطرح أسئلة ثلاثة مفتاحية:

أولها ما الغاية المتوخاة من هذه التدابير القاسية؟

يعتقد بعض المراقبين والخبراء أن الغاية منها الحجرُ على المقاومة في قطاع غزة وشلّ حركتها وتنفيس فعاليتها كثمن تُقدمه مصر إلى الغرب الأطلسي و«إسرائيل» لقاء قروض ومنح مالية ومساعدات اقتصادية وفنية تحتاجها مصر في هذه المرحلة وليس من سبيل للحصول عليها إلّا من دول الغرب الأطلسي وحلفائه الإقليميين.

ثانيها، هل التدابير القاسية المتخذة مُجدية فعلاً؟

يتردّد في الأوساط القيادية الفلسطينية أن جدواها محدودة. ذلك أنّ في وسع المقاومة تجاوزها بجملة تدابير «علاجية» ليس أقلها حفر أنفاق أخرى في مناطق بعيدة نسبياً من منطقة رفح ومتصلة بعمق سيناء. وفي وسع المقاومة اعتماد طرائق معقدة في البر والبحر لنقل الأسلحة وبعض التجهيزات الخاصة إلى داخل القطاع. غير أن أفعل وسائل «المعالجة» ما قامت وتقوم به تنظيمات المقاومة وهو تصنيع بعض الصواريخ محلياً وتجميع بعضها الآخر مما يمكن تهريب قطعه الأساسية إلى القطاع.

ثالثها، إلى أين من هنا؟

لعله السؤال الأهم والأخطر. ذلك أن عزل غزة عن مصر تحت الأرض وفوقها، وعزل مصر عن غزة براً وبحراً، يشكّلان نهجاً سياسياً مغايراً يمكن أن يؤدي عاجلاً أو آجلاً إلى اعتزال مصر القضية الفلسطينية. وعندما تعتزل مصر القضية على هذا النحو لا يبقى لها سبيل وبالتالي دور تلعبه على الصعيد الإقليمي. أجل، فلسطين هي المدخل الطبيعي، السياسي والاستراتيجي لتعاطي مصر مع محيطها القومي والإقليمي، وعندما تفقد هذا المدخل أو تعطله يصعب عليها كثيراً تعويضه بأي سبيل أو مدخل آخر.

وسيؤدي انتهاج هذه السياسة الانعزالية إلى ردة فعل سلبية وربما الى اختلالات مؤذية في الداخل المصري بسبب افتقاده إلى أسباب مشروعة. صحيح أن بعض قادة «حماس» ذوو أصول «إخوانية»، لكن الحركة نفسها، قيادةً وسياسةً وأداء مقاوماً، ليست إخوانية. ولو كانت «حماس» إخوانية لما حظيت بالدعم السياسي واللوجستي الذي سخت به عليها كل من سورية وإيران وحزب الله. حتى بعد الإشكال الذي نجم عن دعم بعض أنصار «حماس» في مخيم اليرموك الفلسطيني لتحركات المعارضين في الشهرين الأول والثاني من تظاهرات ما يُسمّى «الربيع العربي» في درعا ومدن سورية أخرى، فقد أمكنت تسوية الإشكال بدليل عدم توقف حزب الله وإيران عن دعم جميع تنظيمات المقاومة في قطاع غزة الذي تجلّى في ردها الصاروخي المؤثر على «إسرائيل» في حربها الأخيرة على قطاع غزة.

من المفارقات اللافتة أن تظهير سياسة مصر الانعزالية يتزامن مع تصعيد حكومة نتنياهو هجمتها الاستيطانية الضارية على القدس والضفة الغربية، كما اعتداءات مستوطنيها على المسجد الاقصى بقصد احتلاله وتقسيمه. أكثر من ذلك، إذ تشكو مصر من تصعيد التنظيمات الإرهابية الموالية لـِ «القاعدة» عملياتها في سيناء ويعلن بعضها بيعته لـِ «الدولة الإسلامية داعش»، يشكو ضابط رفيع في القيادة العسكرية «الإسرائيلية» من قيام سلاح الجو الأميركي بقصف مواقع «داعش» في سورية بدعوى أن من شأنه أن يقوّي نظام الرئيس بشار الأسد، مؤكداً أن سورية وإيران وحزب الله و«حماس» تهدد «إسرائيل» أكثر مما تفعل «داعش».

كل ما تقدّم بيانه يؤكد أن الخطر الأول والحقيقي الذي يواجه مصر ليس «الإخوان» في المقاومة الفلسطينية بل «إسرائيل» العدوانية التوسعية ومن يقف معها ووراءها، وإنّ قضية فلسطين هي قضية المصريين مثلما هي قضية الفلسطينيين، ذلك أنها مدخل مصر وطريقها إلى استعادة دورها القومي والإقليمي.

وزير سابق

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى