روسيا تسترضي المهزومين في سورية بأدوار معنوية…
د. وفيق إبراهيم
تواصل روسيا تأمين الغطاء الإقليمي لمعركة تحرير إدلب وتثبيت تفاهماتها السابقة مع الأميركيين لاستئصال آخر «خراَّجٍ إرهابي»، كما وصفه وزير خارجيتها لافروف.
لكن المسعى الروسي لا يقتصر على المساعي الحميدة فقط بقدر ما يستند الى موازين عسكرية نتجت من هزيمة كبيرة تلقاها إرهاب دولي مدعوم من الدول الإقليمية وواشنطن في ميادين سورية من الجنوب الى الشمال.
هذا ما يستولد صراعاً جديداً على عنوانين متناقضين: إصرار سوري روسي ايراني على تحرير إدلب بأي شكل من الأشكال العسكرية والسياسية لإنهاء الإرهاب نهائياً مقابل مشروع الاستثمار الأميركي السعودي الاسرائيلي في إدلب لتحسين الدور السياسي المتراجع للأميركيين في سورية، وبالتالي كامل المنطقة، مع حلفائها.
لجهة السعودية فتطمح للعودة الى الأزمة السورية من «شباك إدلب» بعد فرارها مدحورة مع حلفائها الإرهابيين من الباب السوري الكبير، فهل تنجح؟
تصريحات وزير خارجيتها الجبير، بعد لقائه لافروف الروسي منذ يومين عكست وضع الرياض المنكسر وتجسدت برسائل هادئة تختلف عن تصريحاته العنيفة التي كانت تكرر جملة واحدة: «رحيل الأسد أولاً والباقي تفاصيل»، مضيفاً بضرورة إسقاط نظامه أيضاً.
هناك إذاً موقف جديد للسعودية يبعث على الدهشة. فالمعروف أن الرياض دولة لا تتقن «الاسلوب البراجماتي»، تنتج موقفاً وتدور حوله حتى ولو لم تتوفر له سبل النجاح، أما اليوم فقد أعلن الجبير بقبول بلاده بتسوية سياسية بين الدولة السورية والمعارضة متعهداً بتجميع تيارات هذه المعارضة في وفد موحّد للاشتراك في المفاوضات المرتقبة.
والطريف أن لافروف هو الذي أعلن أن السعوديين مكلفون بتجميع المعارضات السعودية والتركية والأجنحة الموجودة في موسكو والقاهرة.
فهل هذا التكليف إعلانٌ بعودة الدور السعودي «المدحور» الى سورية من البوابة السياسية؟ أم أنه مجرد أسلوب للمحافظة على المعنويات الإقليمية لآل سعود ومن دون رصيد فعلي. خصوصاً أن تركيا هي التي تمسك فعلياً بمعظم المعارضات التلفزيونية وبعض التنظيمات التركمانية والاخوانية والقاعدية في سورية.
فالسعودية لم تعد على صلة مباشرة بتنظيمات إرهابية سورية معظمها أصبح مهزوماً أو بدّل من ولاءاته نتيجة رحيله الى إدلب المعقل الأساسي للنفوذ التركي فأصبح على دين ملوكه الجدد.
يتبين بالاستنتاج أن العودة السعودية لا أساس مادياً لها يرتكز في الميادين العسكرية أو لدى أجنحة سياسية فعلية، ما يكشف ان احتمال العودة السعودية لا يمكن أن يتحقق إلا من خلال الدور الروسي من جهة ودعم الأميركيين في غرب الفرات من ناحية ثانية، وهذا ما فعلته الرياض بدعمها للاحتلال الأميركي شرق سورية بمئتي مليون دولار لتأمين استمراره هناك، وذلك بعد تلويح الرئيس الأميركي ترامب برغبته في إنهاء «الوجود الأميركي» العسكري في سورية كما أسماه.
لجهة جانب توسيع العلاقة مع الروس، يبذل السعوديون كامل جهدهم لتنفيذها سواء على مستوى التنسيق النفطي لتثبيت الأسعار أو بتجنب أي انتقاد لدور موسكو في سورية وأوكرانيا وأي أمكنة اخرى، مع التركيز فقط على إيران وتحالفاتها.
فهل ينجح السعوديون بالعودة؟
من يتمعّن في التصريح الاخير لترامب يستنتج أن الرياض موافقة على تسوية سياسية بين الدولة السورية والمعارضة على قاعدة الاعتراف بالأسد رئيساً… أليس هذا هو موقف الدولة السورية نفسها التي لا تنفك تعلن منذ بدء الحرب عن استعدادها لمفاوضة معارضات وطنية معتدلة لا علاقة لها بداعش والنصرة ومثيلاتها!
هناك إذاً براجماتية سعودية مفاجئة ومباغتة تعكس هزيمة محورها مع الأميركيين والإسرائيليين والأتراك فتسارع الى تأمين مقعد نجاة لها في المركب الروسي الثابت والسريع.
هناك إذاً عودة سعودية ذات طابع معنوي لا تحد من تراجع دور الرياض في الإقليم ولا تمنحها أمام شعبها ميزة الادعاء بالنصر.
على مستوى الأتراك فيظهر أن الروس نجحوا في أقناعهم بعدم المغالاة في محاولات الاستثمار في إدلب، فإذا كان إصرار انقرة بالربط بين إنهاء وجودهم العسكري في سورية بالتوازي مع انفراط عقد المشروع الكردي. فهذا أمر يمسك بالقسم الاكبر منه الأميركيون الذين يدعمون «قسد» بكل إمكاناتهم وأرسلوا لها في الاسابيع الماضية شحنات أسلحة نوعية استعداداً لمرحلة إدلب وما بعد إدلب.
والخطير بالنسبة لأنقرة أن واشنطن تربط بين رغبتها بالمحافظة على دورها السوري بالبقاء شرق الفرات بقوات كاملة أو معتدلة تتماهى مع القوات الكردية بدليل أنهم استحدثوا قواعد كبيرة لهم في المنطقة.
ولأن الأميركيين يحتاجون الى تبرير سوري محلي لبقائهم يشكل الأكراد هذا التبرير مضيفين مزايا أخرى يقدّمونها للأميركيين وهي انتشارهم في إيران والعراق وسورية وتركيا.
هم اذاً هراوة يريدها الأميركيون لتمتين دورهم المتراجع في هذه المناطق، فعلاقتهم مهزوزة بتركيا واحترابية مع إيران وتشهد كراً وفراً في العراقـ حيث تتجابه مع نفوذ إيراني راسخ. لذلك تستند الى كرد سورية لتعزيز أوراقها الإقليمية. وهذا يؤذي أنقرة التي تعيش حالياً على هاجس قد يبدو في الوقت الحاضر صغيراً لكنه تهديد فعلي بعودة حزب العمال الكردستاني لتحقيق مناطق مستقلة له في مناطق الكرد أو في تركيا وربما أكثر.
هذا ما يدفع أردوغان الى محاولات إرجاء معركة إدلب أو تأخير مداها لعدم انتقال الجيش العربي السوري بعد تحرير إدلب الى مجابهة الاحتلال التركي في المناطق الحدودية، لذلك بات واضحاً أن موسكو تؤدي دور المعالج الذي يجد مسكنات للمتضررين ومن بينهم «إسرائيل» التي أطلقت تهديداً بقصف مواقع ايرانية فتماهت مع التهديدات الأميركية الفرنسية التي انطلقت من دول دعمت إرهاباً فتك بملايين المدنيين في العراق وسورية وكثير من الدول الأخرى في العالم الإسلامي ولا تزال تراهن على إدلب لإعادة نفوذها الى سورية، فهل بوسع موسكو طمأنة كل هذه القوى المتورطة قبل بدء العمليات العسكرية في أيلول كما هو متفق عليه؟
بداية تشكل الاتفاقات السياسية ترجمة لموازين القوى العسكرية والمختلفة وهذه لمصلحة سورية وتحالفاتها.
قد تحتاج الى تفاهمات «استرضائية» لن تصل بكل تأكيد الى منزلة التنازلات، فهناك قرار سوري روسي إيراني باستعادة إدلب بكل السبل، وفي حالة عدم التوصل الى تفاهمات فإن الحل العسكري جاهز، وليس لدى السعودية وسائل معرقلة إلا إعلامياً. وهذا غير مجدٍ والأمر نفسه ينطبق على تركيا التي تجد نفسها على مقربة من بوتين لحماية دولتها من الجنون الأميركي الذي يستهدفها.
كما أن «إسرائيل» لن تقوم بأعمال نوعية بعد استتباب خط هدنة 1974.
ضمن هذه الإمكانات تبدو معركة إدلب شبه منتهية لمصلحة الدولة السورية على أساس أن هناك مكاناً للمعارضات السعودية والتركية والأميركية ضمن إطار اللجان التي قد تُناط بها إعادة وضع دستور جديد لسورية في الأشهر المقبلة الى جانب الدور الرئيسي للدولة. وبذلك يتضح أن لا مكان في الميدان السوري إلا لدولته التي أعطت نموذجاً لدولة وطنية مجاهدة أصبحت نموذجاً قابلاً للتقليد في كل زمان ومكان.