المصارف صاحبة الدار
يوسف المصري
يُفترض أن يحسم مجلس النواب غداً خياراته في مشروع قانون سلسلة الرتب والرواتب المطروح أمام المجلس.
وهناك عدة اقتراحات لا تزال رهن التداول للوصول إلى صيغة مشروع قانون السلة النهائية. وفي غضون ذلك تظلّ مسألة تأمين موارد تمويل السلسلة هي الشاغل الأكبر للاهتمام.
أبرز الاقتراحات فرض غرامات بمفعول رجعي على شاغلي الأملاك البحرية من غير حق. ويدور حول هذا الموضوع نقاش يصل إلى حدّ الصراع بين «محتلي» الأملاك البحرية وبين الدولة إذا جاز التعبير. وفي حين كان المفروض أن تبادر الدولة إلى وضع خطة تنظم عملية إشغال الأملاك البحرية على نحو قانوني، بحيث تبدأ باستيفاء بدلات إيجار عنها وتغريم محتليها بمفعول رجعي فعلي، فإن ما يجري هو محاولة شرعنة احتلال الأملاك العامة البحرية من خلال فرض غرامات على شاغليها غير الشرعيين. والمفارقة انه حتى هذا الحلّ يلقى معارضة شديدة من محتلي الأملاك البحرية تحت حجة أنّ أيّ إخلال بالوضع الحالي غير الشرعي لحالة الأملاك البحرية يهدّد الاقتصاد السياحي في لبنان! ويعني هذا وضع هذا الملف ضمن معادلة مستغربة: إما شرعنة سرقة الأملاك البحرية العامة أو انهيار الاقتصاد السياحي.
أما بخصوص الضرائب المقترح فرضها على أرباح المصارف التي بلغت في العام الماضي فقط 1.4 مليار دولار، وذلك لتأمين جزء من موارد السلسلة، فإنّ المطروح بشكل أساس هو إلغاء مفعول قانون 1997 الذي أعفى المصارف من دفع الضريبة على أرباحها، وبدل ذلك فرض ضريبة بنسبة 5 إلى 7.5 في المئة على هذه الأرباح. وبحسب مصدر مالي فإنه في حال أقرّت هذه الضريبة فان المصارف ستدفع في العام الجديد وفقاً لحسابات أرباحها في العام الماضي، مبلغ 70 مليون دولار. وتحاول جمعية المصارف إحباط هذه الضريبة من خلال مبادرتها كما ظهر في الأيام الماضية، لتجميع لوبي سياسي داعم للوبي المالي المتمثل بها. وهدّدت جمعية المصارف في هذا الإطار برفع معدلات الفوائد على قروض المستدينين منها، وذلك على نحو يجعل المستدين هو من يتحمّل عبء الضرائب المقترح فرضها على أرباح المصارف، ما يضمن بالتالي استمرار المصارف بجني الأرباح كما كان الحال قبل فرض الضريبة، وفي المقابل جعل المستفيدين من السلسلة يدفعون من جيوبهم ثمن تمويلها. وتعتبر هذه المعادلة أسرع وصفة لتخليد الوضع المعيشي الحالي الشاذ.
من ينتصر في معركة يوم الثلاثاء العمال والأجراء أم تحالف حيتان المصارف والسياسة؟
منذ ما بعد الطائف ظهر جلياً أنّ القوة الأكبر داخل النظام اللبناني هي المصارف فهي قطاع يتجاوز السياسة لمصلحة جني الأرباح. وأمكن لهذا للقطاع المصرفي أن يصبح أكثر قوة نتيجة للعوامل الأساس التالية:
أولاً: تمركز نسبة تتجاوز الخمسين في المئة من أرباح المصارف الـ128 المرخصة في لبنان بيد ثلاثة مصارف فقط، ما جعلها قوة ضاربة مالية وسياسية.
ثانياً: بنت هذه المصارف إمبراطوريتها المالية مستفيدة من الفوائد العالية بنسبة 43 في المئة سنوياً معدل فائدة هو الأعلى في العالم ، جنتها من الاكتتاب في سندات الخزينة في تسعينات القرن الماضي، ما مكّنها من تجميع ثروات هائلة محصّلة لصالحها من الفوائد على استثمارها لرساميل متواضعة في هذه السندات. وبهذا المعنى فإنّ مصادر رساميل المصارف اللبنانية في معظمها مصدره الفوائد الهائلة التي جنتها المصارف من خلال اكتتابها في سندات خلال العقود الثلاثة الماضية.
ثالثاً: تستمرّ المصارف اللبنانية بالاستفادة من سياسة نقدية شاذة لا تساهم في تنمية الاقتصاد الوطني، حيث أنّ معظم إيداعات المستثمرين بالعملات الأجنبية لديها، تجد طريقها إلى المصرف المركزي مقابل إصداره شهادات إيداع بها يصل معدل الفائدة عليها المقدمة من المصرف المركزي إلى 13 في المئة علماً أن هذه المصارف تدفع للمودعين هذه الأموال فوائد لا تتجاوز الـ5 في المئة محتفظة لنفسها بفرق الفائدة الشاسع عن ذات هذه الأموال التي تحصل عليها من المصرف المركزي.
وكلّ ما تقدم يؤشر إلى أنّ المصارف تعاملت مع دورها المالي خلال العقود الثلاثة الماضية وكأنها «دكاكين صيرفة كبيرة» تستفيد من وساطتها بين المودعين والدولة اللبنانية أو بين المودعين، والمصارف في الخارج، من دون لعب أيّ دور إنمائي وطني. وكلّ ذلك يجري في ظلّ غياب قوانين تلزم المصارف باستخدام نسبة معينة من ودائعها أو أرباحها في استثمارات محلية، وهو ما أتاح لها فتح فروع عدة في الخارج لإدارة استثماراتها، مديرة ظهرها لأيّ دور جدي إنمائي ممكن أن تلعبه في الداخل.
والسؤال الذي يطرح نفسه الآن: هل ينتهي عصر دولة المصارف لتدخل الأخيرة في مشروع بناء دولة القانون والعدالة الاجتماعية؟
يوم غد الثلاثاء سيحمل الجواب… ولكن مع استدراك هام بحسب مصادر مالية، مفاده انه حتى لو صوّت مجلس النواب لمصلحة إقرار السلسلة، فإنّ تنفيذها بحاجة إلى مواصفات ومراسيم تطبيقية من قبل رئاسة الجمهورية ومجلس الوزراء. وهناك شكوك بتمرير هذه القوانين في المؤسستين الأخيرتين.
وتكشف هذه المصادر في هذا المجال عما تسمّيه وجود توجه في جمعية المصارف لعرقلة تنفيذ أيّ تصويت إيجابي لمجلس النواب على السلسلة، وهي التالية:
في حال أقرّ المجلس السلسلة، فمن المتوقع بحسب مصادر مصرفية أن يقوم رئيس الجمهورية بممارسة حقه الدستوري بردّ القانون إلى مجلس النواب لإعادة النظر به خلال مدة شهر. وفي حال قرّر المجلس التصويت عليه مجدّداً وفق النسخة الأولى، فإنّ رئيس الجمهورية يستطيع رفعه إلى المجلس الدستوري لإبداء رأيه الملزم به والسؤال ماذا سيحصل لهذا المسار القانوني في حال كان البلد في مرحلة فراغ رئاسي. وأيضاً كم من الوقت سيستغرقه المجلس الدستوري في دراسته للقانون، وأكثر من ذلك أين المجلس الدستوري اليوم فهو هيئة غير مكتملة. وحتى لو انه تمّ طرح ملء الفراغات في المجلس الدستوري، فإنّ قانون تعيين أعضائه يسمح للسياسيين بانتقائهم، وهذا سيوفر فرصة للمصارف كي تضغط سياسياً في معركة إعادة إنتاج مجلس دستوري موال بغالبيته لمصالحها.