العفو عن جعجع: الدستور في خدمة السياسة
د. جواد محمد شاهين
يعتبر ترشح رئيس الهيئة التنفيذية في القوات اللبنانية سمير جعجع إلى انتخابات رئاسة الجمهورية سابقة في الحياة السياسية اللبنانية. وهذه السابقة لا تعود إلى طريقة الترشح أو المشروع السياسي للرجل، بل ترتبط بتاريخ الرجل وماضيه، حيث أنه محكوم من المجلس العدلي بالإعدام المخفّف إلى السجن المؤبد بعدة جرائم مدرجة ضمن خانة الإخلال بأمن الدولة عبر عدد من الاغتيالات التي شملت رئيس حكومة وعدداً من رجال السياسة وعائلاتهم.
وتشير عملية ترشح جعجع لرئاسة الجمهورية إلى وجود عدد من الثغرات وما أكثرها في الدستور اللبناني حيث لم يضع هذا الدستور أي آلية وأي شروط للترشح، وهي شروط قد تفرض على أي مواطن يريد الاستفادة من أي خدمة في إحدى مؤسسات الدولة، وأول هذه الشروط هي تقديم سجل عدلي خال من الأحكام القضائية. وقد استطاع المرشح جعجع النفاذ من هذه الثغرة الدستورية مستفيداً من قانون العفو الصادر عن المجلس النيابي في تموز 2005.
وإذا كنا اعتبرنا ترشح جعجع سابقة، فماذا عسانا نقول في قانون العفو الذي استفاد منه جعجع للخروج من السجن؟ وما مدى دستورية هذا القانون أصلاً؟
ينقسم العفو في القوانين الجزائية الى نوعين: عفو خاص هو من صلاحيات رئيس الجمهورية حصراً، يمنحه ويصدره لمصلحة محكومين بعينهم يذكرون بالاسم، وهو يلغي العقوبة من دون أن يلغي الجريمة، وعفو عام يصدر بقانون عن مجلس النواب لأنّ فيه تعطيل لأحكام قانون العقوبات حيال عدد من الجرائم المستحقة للعقوبة، فيكون موضوع العفو إلغاء أفعال جرمية معينة وعقوباتها من دون النظر إلى شخص أو أشخاص مرتكبيها، وذلك تطبيقاً لإحدى أهمّ خصائص القاعدة القانونية هي العمومية والتجريد من حيث الأشخاص والوقائع. فتخاطب القاعدة القانونية الأشخاص بصفاتهم لا بذواتهم، وتنطبق على كلّ واقعة توافرت فيها الشروط أو المواصفات المحددة بالقاعدة، ولا توجه إلى شخص بذاته أو حالة بعينها. وعليه فلكي يكون قانون العفو الصادر عن مجلس النواب متوافقاً مع أحكام الدستور والقانون ومواتياً لمفاعيله، يتوجب أن ينص على جرم أو جرائم ذات طبيعة معينة ارتكبت خلال فترة زمنية سابقة لقانون العفو بحيث يعفى مرتكبو هذه الجرائم من العقوبة المقرّرة لها.
وبمراجعة سريعة لقانون العفو عن جعجع نراه ينصّ على ما حرفيته:
«يُمنح عفو عام عن جميع الجرائم موضوع الأحكام الصادرة عن المجلس العدلي رقم 5/95 و2/97، 2/99 و4/96 والحكم الصادر عن محكمة جنايات بيروت تحت رقم 380/96… كما تسقط حكماً جميع الأحكام الصادرة بموجبها وكلّ العقوبات المقضى بها من جرائها… وتتوقف أيضاً جميع الملاحقات في غير ما ذكر أعلاه من قضايا والتي يمكن أن تستهدف المشمولين بهذا العفو العام لغاية 30/12/1994…».
يتبيّن من نص القانون أعلاه أنّ العفو يشمل المدانين بموجب أحكام قضائية معينة بأرقامها وتاريخ صدورها، وذلك مخالف لمبدأ العفو العام عن جرائم معينة بنوعها مما يشكل سابقة تشريعية – قانونية عبر ذكر أحكام قضائية يشملها العفو، حيث أنّ ما يقتضي تحديده في قانون العفو العام هو نوع الجرم المراد العفو عنه وليس تحديد الأحكام القضائية. بتعبير آخر، إنّ قانون العفو المذكور يعني في حقيقة الأمر تحديد الأشخاص المدانين في هذه الأحكام بعينهم، وهو ما يجعله خارجاً عن إطار مفهوم العفو العام ليقترب في مفاعيله من العفو الخاص الذي رفض رئيس الجمهورية آنذاك العماد إميل لحّود إصداره.
وإذا كانت صيغة العفو العام تحدّد الجرائم المعفى عنها، فهل كان من الممكن إصدار عفو عام عن مدانين بجريمة اغتيال الرئيس رشيد كرامي، ويشمل نصه مثلاً العبارة التالية: «تعفى جرائم اغتيال الرؤساء»، بخاصة أن العفو العام يسدل ستار النسيان على بعض الجرائم بمحو الصفة الجرمية عنها وإزالة جميع الآثار المترتبة عليها وجعلها في حكم الأفعال المباحة أصلاً؟
من المبادئ في القانون أيضاً أن يعتد بالوصف القانوني الحقيقي للفعل، وقد يكون مختلفاً عن وصف الفرقاء له. وفي حالة قانون العفو عن جعجع، نحن أمام عفو خاص في الجوهر أعطاه المجلس النيابي شكل وتسمية العفو العام. كما أنّ الأحكام موضوع العفو هي أحكام صادرة عن المجلس العدلي. وبالتالي فإنّ المجلس النيابي قد خرق مبدأ الفصل بين السلطات مرتين: الأولى عبر ممارسته لإحدى الصلاحيات التي تعتبر صلاحية حصرية لرئيس الجمهورية كما أسلفنا أعلاه، والثانية عندما أعفى عن بعض الأحكام الصادرة عن أعلى سلطة قضائية في البلاد بطريقة تدلّ أنّ المشكو منه هو هذه الأحكام بالذات وليست الجرائم المرتكبة.
في الخاتمة يصبح السؤال التالي مشروعاً: هل هي مصادفة أن يصدر في نفس تاريخ قانون العفو العام قانون آخر يوقف العمل بالمجلس الدستوري ويؤجل النظر في المراجعات أمامه؟
دكتور في القانون وأستاذ جامعي