إرهابيو إدلب نحو استثمارات أميركية جديدة
د. وفيق إبراهيم
مصير عشرات آلاف الإرهابيين في منطقة إدلب، يثير قلقاً عالمياً، لجهة انتقالهم إلى بلدان جديدة توافق على استقبالهم وإعادة دمجهم في مجتمعاتها.. أو التي يستطيعون التسلل إليها.
يكفي استحضار نموذج أفغانستان التي جرى نقل مسلحين إليها من منظمة القاعدة الإرهابية في سبعينيات القرن الماضي.. وبعناية أميركية ـ سعودية دقيقة رعت شؤون التسلل والتنظيم والتسليح والتمويل فقط، وعندما خسر المشروع السوفياتي فيها، غطت دُول العناية نفسها، انتقالهم إلى الجزائر التي نشروا فيها فوضى إرهابية لعقد كامل.. والصومال التي لا تزال تعيش حروباً داخلية إرهابية. كما أسست بيئات شبيهة في تونس وليبيا وتشاد والعراق وسورية بوسيلتين:
الترويج للفكر الوهابي ـ القاعدة والدعم السعودي ـ الأميركي المادي والسياسي واللوجستي.
وإلاّ كيف يُمكن تفسير انتقال داعش من العراق المدجّج في حينه بمئات آلاف الجنود الأميركيين إلى سورية؟
بداية، يجب تأكيد أنّ خطوط انسحاب مقاتلي الإرهاب مقفلة بإحكام من جهة سيطرة القوات السورية وحلفائها. فيبقى خطان مفتوحان لهم من ناحية تركيا شمال إدلب وغربها.. أما الخط الثاني فهو كردي ـ أميركي في شرق الفرات وشمال سورية.
وبما أنّ معركة تحرير إدلب لم تعد بعيدة وتنتظر انتهاء محاولات تركيا لفصل «المعتدلين عن الإرهابيين» التي لن تطول لأكثر من الشهر الحالي.. فيبدو أنّ الحلف الأميركي ـ السعودي، عاكف على تحديد المناطق الجديدة التي يمكن الاستثمار السياسي ولاحقاً الاقتصادي فيها. لجهة الخط التركي فمربوط بمصالح تركيا التي تعتبر أنّ بوسعها الاستثمار على أكثر من مستوى:
أولاً تهديد أوروبا وبالتغاضي عن انتقال الإرهابيين إليها.. وتوافق أوروبا على منحها كسبب اقتصادي.. مع تسويق سهل للغاز الروسي الذي ينتظر أنّ يمرّ من أراضيها نحو القارة العجوز.
ثانياً: يريد أردوغان أيضاً المقايضة بين إرهابيي إدلب والمشروع الكردي.
ثالثاً: تحاول انقرة انتزاع موقف روسي ـ سوري بأن الوجهة المقبلة للجيش السوري بعد إدلب هي شرق الفرات وليس الجيب الذي تسيطر عليه داخل سورية وعند حدودها معها.
رابعاً: تُصّر تركيا على دور ميداني ولاحقاً سياسي للمنظمات التركمانية السورية الموالية لها.
فيبدو الرئيس أردوغان بهذه العروض كمن يفتح مزاداً علنياً في صراع الحلفين الروسي ـ السوري ـ الإيراني مقابل الحلف الأميركي ـ السعودي ـ الإسرائيلي ـ الأوروبي.. ومَن الذي يدفع أكثر تميل إليه انقرة.
على مستوى شرق الفرات فالوضع أسهل بالنسبة للأميركيين.. فهم رعاة الكرد في «قسد» وموجودون مباشرة على الأرض، وينقصهم فقط تحديد الوجهات التي تريد من عشرات آلاف الإرهابيين أنّ ينتقلوا إليها في إطار خدمة مشاريعها وحروبها الاقتصادية.
لذلك تحاول واشنطن إرجاء معركة إدلب إلى ما بعد تشكيل لجنة إعداد الدستور الجديد، فتبتز بذلك الدولة السورية أكثر على مستوى مشاركة موالين لها في المؤسسات الدستورية الجديدة وتقنص حصصاً من إعادة الإعمار وامتيازات في شرق سورية في آبار النفط والغاز.
ولا تقتصر الحركة الأميركية على عرقلة تحرير إدلب.. فتقوم بالتوازي بإعادة السيطرة على مساحة 224 كيلومتراً من الحدود السورية ـ العراقية، من جهة البوكمال ـ التنف السوريتين وما يقابلهما من الغنائم والوليد العراقيين.. فتعرقل خطوط التنسيق الاستراتيجي بين سورية والعراق.
ضمن هذه المعطيات، يجنح الأميركيون في حالة خسارة الإرهاب في إدلب، أنّ يدعموا نشراً قسرياً لمجموعات قاعدية سورية في مدن سورية، من أبرز مهامها تنفيذ عمليات تفجير واغتيالات للحيلولة دون الاستقرار الفعلي.
هذا إلى جانب وجهات دولية أخرى تدرس واشنطن بعناية سبل توزيعهم عليها بشكل يخدم المشروع الأميركي، وذلك على قاعدتين:
نشر إرهابيين في بلدان تضايق الأميركيين اقتصادياً.
ثانياً: ضرورة انتماء هؤلاء الإرهابيين إلى البلدان المستهدَفة.
لذلك فإن تشريح جنسيات الإرهابيين قد يفضي إلى تحديد وجهة نشرهم.
يبدو أنّ الأيغور المنتمين إلى الأقلية الإسلامية في الصين هم الأكثر عدداً ويصلون إلى ستة آلاف إرهابي تقريباً. بما يعزز فكرة إعادة نشرهم في بيئاتهم الأساسية. فيبنون فيها مراكز تنشر أفكاراً قاعدية وتروّج بأن المسلمين في الصين مضطهدون ومظلومون.
وللمصادفة غير البريئة، فإن الإعلام الأوروبي والخليجي، يشّن منذ أسبوع تقريباً حملة تتهم بكين بإهمال الأيغور في مناطق بونغ يانغ وتسوّق بأنهم الأكثر فقراً في بلادهم والمضطهدون من جانب الأكثرية الصينية.
هناك اتهام آخر للصين إسلاميي الإبعاد أيضاً.. ويتجلى بنخوة سعودية ـ خليجية مستجدة، ترثي لأحوال أقلية «الروهينغا» الإسلامية الذين تهجروا منذ ثلاث سنوات من مناطقهم في ميانمار وانتشروا بمئات الآلاف في بنغلادش ومناطق مجاورة، يعتبر الإعلام الخليجي ـ الغربي، هنا أنّ الدعم الصيني لسلطات ميانمار هو الذي أدى إلى تهجير أقلية «الروهينغا»، ويتبيّن بالتحليل أنّ الفكر الوهابي رعى في ميانمار نشراً لعقائده المتطرفة، لحساب محاولات أميركية كانت تريد استئصال النفوذ الصيني من هذه البلاد. أي تماماً كما فعلت في البلاد العربية من نشر لفكر متطرف ودعم مادي وتسليحي مع بناء مئات المراكز الفكرية.
فإذا جرى الربط بين الحرب الاقتصادية الأميركية على الصين، ومحاولات واشنطن الاستثمار بالتطرف القاعدي ـ الإسلامي لاستنهاض أقليتها الإسلامية من الأيغور وأقلية الروهينغا في ميانمار، يمكن تأكيد أنّ هناك استهدافاً متصاعداً للصين قد لا يتمكن من إحداث تغييرات بنيوية لكنها تعرقل الصعود الصيني بشكل مؤقت.
وللزوم عرقلة الاتفاق الخماسي حول بحر قزوين، تحاول واشنطن تجنيد إرهابيي إدلب من التركستانيين والأوزبك والبلوتش والأذريين في محاولة لتجنيدهم في تركستان وأوزبكستان وأذربيجان وإيران.. من دون نسيان روسيا التي تعمل المخابرات الأميركية والبريطانية على تجنيد إرهابيين ينتمون إلى المناطق الإسلامية في روسيا.
ولشمال أفريقيا حصته، فالإرهابيون المنتمون إلى دوله في إدلب قد يجري تجنيدهم لإرسالهم إلى ليبيا وتونس والجزائر.
إنّها حرب كونية جديدة تحاول واشنطن بواسطتها نشر الفوضى في العالم وإرباك ثلاثة خصوم بشكل أساسي هم الصين وروسيا وإيران.. وذلك لإعادة وضع سلطانها على رقاب الدول، والإمساك بطاقة العقود المقبلة أي الغاز إنتاجاً وتسويقاً.
هناك أيضاً هدف أميركي كامن، يتعلق بالتجديد للإمبراطورية الأميركية ومنعها من الانهيار.. وهذا يتطلب تأديب الدول لإعادة ربطها بالمركزية الأميركية كحال تركيا واليابان وكندا والاتحاد الأوروبي، وهي بلدان لم تتخلّ يوماً عن ولاءاتها الأميركية.
إدلب إذاً معركة عالمية تختزن مصالح إقليمية ودولية.. لكنها تبقى مهما حدث في إطار الاهتمام الوطني السوري المعتز بها، والمصرّ عليها لأنها جزء من التراب الوطني السوري لا يأبه بما تريده واشنطن وما تحلم به تركيا و»إسرائيل».