الطوائف والسيادة في الميثاق الوطنيّ ٤
نسيب أبو ضرغم
يروي المؤرخ يوسف إ. يزبك الوقائع الحرفية للقاء الشيخ بشارة الخوري ورياض الصلح في منزل الأول في عاليه، وذلك في صيف 1943، حيث عرض بشاره الخوري على رياض الصلح مشروع اتفاق في خطوطه العريضة «بأن يكون لبنان وطناً عربياً مستقلاً ذا طابع خاص، يطمئن فيه المسيحيون الاطمئنان الكامل… فتكتب صفحة جديدة في حياتنا الوطنية تمحو تلك التي يريدها الأجانب لنا…».
ويردّ رياض الصلح وفق ما أورده المؤرخ يزبك:
«… إن من يعمل لحرية لبنان يعمل لحرية العرب جميعاً في شتى ديارهم، ومن يعمل لحرية العرب يعمل لحرية لبنان أيضاً». د. إدمون رباط ـ المرجع السابق ـ ص 833 ـ 834 .
فطرح عليه بشاره الخوري عندئذٍ هذا السؤال:
«هل تظن يا رياض أن اتفاقنا بجمع إخواننا المسلمين في لبنان حوله، فيرفضون بأن يصير لبنان وطنهم الأخير، لا مرحلة انتقال، أي أنهم لا يعودون ينظرون إلى دمشق نظرتهم إلى الأمل المنشود، و…» د. رباط، المرجع السابق، ص 834 ـ 835 .
فقاطعه رياض الصلح قائلاً:
«إذا كان اتفاقنا صريحاً شريفاً، لا غبن فيه على أحد، ويحفظ كرامة المسلمين والمسيحيين معاً، مراعياً شعور الفريقين… عندئذٍ نقلب صفحة الماضي المؤلم، فنقضي على معزوفة الأم الحنون، ومعزوفة الالتحاق بدمشق…». د. رباط، المرجع السابق، ص 835 .
لنقف عند الأفكار التي طرحها الرجلان في اجتماعهما الأول: وهي تنقسم إلى قسمين:
القسم الأول: أفكار عامة تصلح كمدخل لولوج حقيقة الاتفاق وقد حدداها بأنّ لبنان بلدٌ عربي ذو طابع خاص، وأن العمل للبنان كالعمل للعرب والعكس صحيح، إلا أن جوهر اللقاء عاد وظهر جلياً في آخر الحديث بين الرجلين حينما اتفقا على أن يصبح لبنان وطناً نهائياً وأن تطوى صفحة العودة إلى دمشق كموئلٍ للأمل المنشود. يبدو أن الرجلين أرادا توضيح الفكرة أكثر، وهي الفكرة الأساس على كل حال عندما قال بشارة الخوري «… فنقضي على معزوفة الأم الحنون ومعزوفة الالتحاق بدمشق…» ويوافق رياض الصلح على الطرح، ويحمل الاتفاق ليعرضه على قسم كبير من العاملين في السياسة العربية.
نعم، وبوضوح تام، «الميثاق الوطني» اتفاق قام على قاعدة المساواة بين المستعمر والشقيق الذي يرتبط لبنان به ارتباط الوجود الواحد. تماماً كمن يقول: مقابل تخليكم عن الارتباط بالأجنبي المستعمر نتخلى عن روابطنا القومية، إن الكارثة ليست في هذه المعادلة، بل في حقيقة ما إذا كان الفريق الآخر قد تخلى عن الأجنبي سياسة وثقافة…
الاجتماع الأول أرسى قاعدة لا للشرق ولا للغرب!
أما الاجتماع الثاني والذي جرى أيضاً في منزل الشيخ بشاره الخوري في عاليه، وكانت الانتخابات النيابية قد جرت في تموز 1943 وفاز فيها الحلف الدستوري الخوري ـ الصلح فقد اتفق فيه الإثنان على وضع مبادئ هي الآتية:
أ ـ «لبنان جمهورية مستقلة استقلالاً كاملاً، لا تربطها أية معاهدة أو أي اتفاق بأية دولة، هو بلد سيد نفسه».
ب ـ «لبنان ذو وجه عربي، ولسان عربي، وهو جزء من العالم العربي، له طابعه الخاص، ولكن مع عروبته هذه لا يقطع علائقه الثقافية والحضارية التي أقامها مع الغرب باعتبار أن هذه العلائق قد ساعدته على الوصول إلى الرقي الذي هو فيه ».
ج ـ «لبنان مدعو إلى التعاون مع الدول العربية، وإلى دخول الأسرة العربية، بعد أن تعترف هذه الدول باستقلاله وكيانه، ضمن حدوده الحاضرة، فعليه أن يحفظ التوازن مع الجميع ولا أن يميل مع أي فريق…».
د ـ «توزع جميع المناصب في الدولة على جميع الطوائف بالإنصاف وإذا كانت الوظيفة تكنيكية روعيت بها الكفاية».
ثمة نقطتان في هذا الاتفاق تشكلان جوهره، وتجسدان الأسباب الموجبة لوضعه وهما:
أ ـ اعتبار لبنان ذا وجه عربي، ولسان عربي: ماذا يعني ذلك، غير أن رياض قد اكتفى من عروبة لبلد أن يكون عربي الوجه يضع برباره وعربي اللسان، أي اكتفى بالشكل، وترك الأساس للفريق الآخر، الذي أصر على أن يتضمن البند الثاني المشار إليه شرعية علاقاته مع الغرب، الثقافية والحضارية.
فلنتصور ميثاقاً يصرّ البعض على أنه «عبقري» يؤكد بأن لبنان جزءٌ من العالم العربي، وفي البند ذاته، يؤكد على علاقات لبنان الحضارية والثقافية مع الغرب يقصد فرنسا . كيف يكون لبنان جزءاً من العالم العربي، وهو ذو نزوع وتواصل حضاري ـ ثقافي غربيّ، إلا إذا كان القصد هو أن لبنان جزءٌ من الجغرافيا العربية وانتماؤه العربي انتماء جغرافي فحسب.
في مكان من الميثاق المادة الأولى يجري تأكيد استقلال لبنان، وفي المادة الثانية يجري ربطه بالثقافة والحضارة الغربية، فأي استقلال هذا، وهل يتحصل لبلد في العالم استقلال حقيقي، إن لم يكن استقلالاً روحياً حضارياً في الدرجة الأولى.
ميثاق ـ مقايضة، ولكنه مقايضة غير متوازنة، الفريق الأول يتنازل عن جوهر وجوده القومي فيقطع أي اتصال مع أيّ جهة قومية مقابل كلام لفظي يترك معزوفة الأم الحنون، التي يعودون فيؤكدونها في المادة الثانية عبر الإصرار على التواصل الحضاري والثقافي مع فرنسا.
ب ـ تأسيس الوطن والدولة على قاعدة الطوائف، حيث نص البند د على «توزيع جميع مناصب الدولة على جميع الطوائف بالإنصاف…» وهذا ما كرسته المادة 95 من دستور 1943 تعديلات الاستقلال .
لنرَ أي دولة أنتجها هذا الميثاق؟
أولاً: أنتج دولة على قاعدة طوائفية، بحيث جعل من الطوائف مكوّنات سياسية ثقافية ـ اجتماعية، تشكل العناصر الأولية لهذا المجموع اللبناني.
تلك العناصر، التي أثبتت التجربة، أنها تتلاصق في أفضل أحوالها ولكنها لا تلتحم أبداً.
ثانياً: أنشأ دولة فارغة من أي مضمون قومي، فهي ترى إلى نفسها وكأن ما يحصل في المنطقة لا يعنيها، على قاعدة «لا للشرق» في وقت لم تترك فرصة للانخراط في أي جهة غربية نعم للغرب . والمثال الأخير مقولة «النأي بالنفس»، المقولة الغبية التي لم تقدم للبنان سوى الضياع وعدم رسم المسار الصحيح وسط كل هذا الصراع الجارف في المنطقة.
خطورة «فلسفة» الميثاق بأن «لا للشرق ولا للغرب»، أنها تضع الدولة اللبنانية في حالة مساواة من قبلها، بين الشقيق والعدو، حتى في أقصى لحظات اعتداء العدو على الشقيق.
ثالثاً: أنتج هذا الميثاق دولة تعاني من انفصام في الشخصية، فهي في الشكل عربية الوجه واللسان، وفي الأساس غربية الثقافة والحضارة، وكانت في كل مرة تواجه فيها الصراع الحقيقي بين الشرق والغرب تتعرض للانفجار والتشظي 1958 ـ 1975 .
رابعاً: أنتج الميثاق «دولة» وزعت نفسها على الطوائف، فصارت مكاسب وأسلاباً للمتنفذين في هذه الطوائف، بل سلطة يستعملها هؤلاء لتحقيق مكاسبهم.
خامساً: أنتج الميثاق انتصار الطائفة على المواطنة، وأسقط كل قيمة وطنية حتى الخيانة أصبحت بفعل هذا الميثاق وطنية وبطولة طوائفية.