«معرض دمشق» يصفع تركيا ومعارضاتها
د. وفيق إبراهيم
رسالتان تتعلقان بسورية، حدثتا في وقت واحد. وبدتا وكأنهما رسالتان إلى كل المعنيين والمتورطين بأزمة سورية: الأولى منظر ملايين السوريين يتنقلون في الأيام العشرة الماضية في أجنحة معرض دمشق الدولي وأقسامه ومعروضاته الصناعية بسرور وفرح غير آبهين بغارة صواريخ إسرائيلية كانت تضرب في الوقت نفسه مطار دمشق. فيما يتولى الدفاع الصاروخي السوري إسقاط معظمها.
أما الرسالة الثانية، فتتعلق بقيادي من قيادات المعارضة السورية المستوطنة تركيا، يؤكد أنّ الحرب في سورية بدأت الآن، مضيفاً على محطة الجزيرة بأنّ الجيش التركي المجتمع قرب الحدود السورية وداخلها، يتحضّر لإلحاق هزيمة نهائية بجيش بشار الأسد. فمن هم السوريون: أهم رواد المعرض الدمشقي الآمنون المبتهجون بالإنجازات الصناعية لقواهم الفاعلة بعد ثماني سنوات من الدمار والتخريب وتدخلات القوى الإقليمية والدولية، والواثقون من قدرة دولتهم على حمايتهم.. أم ذلك المنافق الذي فقد سوريته بقرار شخصي منذ عقد تقريباً، معلناً انتماءه لبلد غازٍ وعدواني يساهم بتدمير بلاده بأشكال مباشرة وتآمرية؟
يبدو أنّ هاتين الرسالتين هما برسم لقاء سوتشي الذي يجمع بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والتركي رجب طيب اردوغان بخصوص منطقة إدلب. فهناك إصرار روسي يستجيب لإصرار الدولة السورية على تحرير إدلب من الإرهاب «العثماني القاعدي»، وهناك تلاعب ومكر تركيان يحاولان شراء الوقت لتحقيق الطموحات تركيا ومطامعها في سورية والعراق.. يراوغ الروسي لتأمين الحد الأقصى من مطالبه، متفاوضاً بشكل سري مع الأميركيين على مطالب له عند الكرد في الشرق والشمال وعند الدولة السورية في الجيب السوري الذي يحتله. وله أيضاً مطالب بضرورة تمثيل الاخوان المسلمين السوريين في لجان تشكيل الدستور.. فيبدو أردوغان وكأنه الممثل الفعلي للشعب السوري استناداً إلى عاملين: المعارضات السورية الموجودة في تركيا، والنصرة والتنظيمات العثمانية الإرهابية الموجودة في إدلب برعاية الجيش التركي الذي يحميها داخل سورية وخارجها.
فهل هذا صحيح؟
لا توجد دولة في العالم تدعم معارضة في دولة أخرى مجاورة لها، ألا لتحقيق مطامع لها في هذه الدولة: فتركيا لا تزال تحتل منطقة الاسكندرون السورية منذ مطلع القرن الماضي، وتعتبر أنّ منطقة حلب وصولاً إلى إدلب هي «تركية»، اضطرت انقرة إلى التخلي عنها استجابة لضغوط فرنسية ـ بريطانية في ذلك الوقت. وتجد أنّ الفرصة حالياً موآتية لاسترجاعها وأردوغان المأزوم في معظم مشاريعه، لم يتمكن من تحقيق حلم بلاده بالانتساب إلى الاتحاد الأوروبي، مصاباً بخيبة عميقة لفشله في تحقيق خلافة إسلامية عبر كونفدرالية الاخوان المسلمين، ومني بخسارة إضافية لتقهقر إرهاب داعش والنصرة، فاقداً إمكانية بناء نظام سياسي سوري موالٍ لبلاده، وتكرر الأمر نفسه في العراق.
فلم يتبق له إلا نفرٌ من معارضين سوريين يقاتلون بألسنتهم. وليس لديه إمكانات في الميدان السوري، هؤلاء يطلقون خطباً وتهديدات عبر محطة «الجزيرة» القطرية و«العربية» السعودية، تلبي حاجات المستخدمين التركي والسعودي، ولا علاقة لها بمتطلبات السوريين. فيبدو المشهد مضحكاً، لكن التركي يتمسك بهم لعدم وجود البديل.
فلماذا ترعى تركيا والسعودية و«إسرائيل» والغرب الأوروبي والأميركي، مئات من المعارضات التي تضمّ سوريين أصبحوا نجوماً في محطات التلفزة وهم لا يمتلكون الحد الأدنى من الدعائم الشعبية في سورية.. هذا يكشف أنهم يؤدون دور التبرير الذي تستعمله القوى الاستعمارية التي تهاجم سورية، لإضفاء لمسات سورية على خططها التدميرية باسم مجموعات من «فاقدي الوزن» والقيم والأخلاق، خرجوا من التاريخ وإلى الأبد.
فتركيا مثلاً لديها مجموعات التبرير السورية، والأميركيون لديهم الكرد وبضع مئات من المتساقطين من عشائر شرقي الفرات، والسعودية لديها عدد أقل لأنها تكاد تفقد كامل تأثيرها في الميدان السوري. فتضطر لتمويل الاحتلال العسكري الأميركي لسورية، وترسل أسلحة ومساعدة إلى النصرة في إدلب من خلال تركيا وبإشراف مخابراتها.
وهناك شلل سورية في أوروبا تقدم المنتمين إليها على أنهم مفكرون يريدون تشكيل نظام علماني سوري ويؤيدون في الوقت نفسه داعش والنصرة. وهذا أكره أنواع النفاق الذي لا يصدقه أحد. وهل يمكن لمعارضين تدعمهم «إسرائيل» أنّ يشكلوا نموذجاً لنظام سوري يلتزم قضايا شعبه وأمته؟.. وهل يمكن لمعارضين بالدعوة إلى الديموقراطيين والحداثة وهم ممولون من السعودية ذات النظام الديكتاتوري ـ القبلي ـ القرون أوسطي؟ كيف تقبل تركيا دعم معارضين سوريين إذا كانوا من الرافضين لاحتلالها في الاسكندرون وشمالي سورية؟
لذلك فإن لقاء سوتشي هو محاولة روسية لإفهام الأتراك أنّ إدلب هي منطقة سورية وليست تركية، وأنّ الدولة السورية هي الناطق الوحيد باسم السوريين وبالتالي سورية.. عودوا إلى معارك الجيش السوري على مساحات فاقت المئة ألف كيلومتر مربع وكم من الدماء بذلها من أجل تحريرها وإنقاذ شعبه ووطنه؟
اسألوا الملايين التي جالت في معرض دمشق عن مدى ولائها لدولتها وايمان هذه الدولة بشعبها؟
وهذا يكشف عجز هذه المعارضات عن تأمين تُغطية سورية، للمحتل التركي ولبوس لمطامعه الايديولوجية والجغراسية.
لذلك الغريم هو «الكردي» المحتمي بعباءة الأميركيين.. كما أنّ انقرة، هي من أدخل الإرهاب العالمي إلى سورية في السنوات السبع الأخيرة باعتراف عالمي بهذا الدور.
فكيف يمكن لأردوغان ونظامه ومخابراته أنّ يؤدوا دوراً في محاربة إرهاب هم بنائه وحماته؟ أما مسألة التذرّع بحماية المدنيين، فالدولة السورية أحق بالخوف على مدنييها من بلدٍ يحتل قسماً منها، ولا يزال يؤدي منذ ألف عام دور سفاك وقاتل أباد قسماً كبيراً من العرب والأرمن والسريان والأكراد والاشوريين، والأقليات الطائفية المسيحية.. تركيا اليوم تحتل ثلث جزيرة قبرص منذ أربعة عقود، وتستولي على قسم كبير من أرمينيا وتعتدي على سورية والعراق.. وتحتل أجزاء حدودية منهما، ولها مشاكل مع الأميركيين وتتجه إلى صدام مع الروس.
إدلب إذاً هي منطقة صراع دولي تفصل بين فريقين: سوري روسي مع تحالفاتهما الدولية والإقليمية، وفريق أميركي أوروبي إسرائيلي سعودي، وتقف تركيا بينهما في محاولة لتحقيق أكبر قدر ممكن من المصالح الجغرافية والسياسية والايديولوجية. فإضافة إلى مطامعها التوسعية، تضّرُ على إلحاق الاخوان المسلمين بالتسويات السياسية في سورية والعراق، اعتقاداً منها بقدرتها على إرجاع عقارب ساعة التاريخ إلى الوراء.
إنّ من يمتلك القدرة على منح الاخوان المسلمين هوامش من الوجود السياسي هو الشعب السوري الذي قال كلمته يوم جدّد للرئيس بشار في ولاية جديدة، وحين انتخب نواب مجلس الشعب، والآن وهو يختار مجالس بلدياته، وكما أنّ تركيا بلد محتل لإراض سورية وداعم للإرهاب، فإن «الاخوان» مرحلة ايديولوجية سقطت من تاريخ سورية المتجه إلى بناء الدولة الوطنية المتكاملة والمعبّرة عن طموحات شعبها بالتقدم والحداثة ومواجهة أحلام الطامعين.
معرض دمشق لم يكتف بصفع المعارضة.. بل صفع تركيا وأحلامها.