مكتبة «البناء»

تأخذنا قصائد الشاعر عدنان الفضلي الى فضاء الذات، بوصفها صاحبة المرقاب الذات التي ترى، والتي تستدعي الوجود عبر الوسيط اللغوي الى بؤرتها التوليدية، والى كشوفاتها وتجلياتها، اذ تكون هي جوهر التحويل الشعري، ومركز الجذب الذي يتشكل عنده حافز اللذة وغريزة الكشف. هذه الذات تخوض لعبة استدعاء في التحريض والرفض والجذب والتمرد وأنسنة اللغة، مثلما تحمل هاجس الرؤيا بوصفها كشفاً ومجساً للتطهير، واستكناهاً لما يحمله الشاعر من مراث لوجوده ولجسده ولفقداناته، إذ تتحول القصيدة الى مجال رؤيوي لكتابة ما تراه الذات، تلك المسكونة بحسيتها المفرطة، وفتنتها، اذ ينسلّ معها الشاعر في اتجاه تحويل فعل الشعري اللساني، الى إحساس عال بالوجود والمعنى والتجلي.

في القصائد التي تضمها مجموعة «غواية الساعات» للشاعر العراقي عدنان الفضلي، تتكشف للقراءة تلك المساحات التي تبدو كأنها «مناطق شخصية» للشاعر يمارس فيها اعترافاته ويطلق من خلاله هواجسه، وما يمكن أن يتساقط من مرقاب ذاته الرائية وهي متورطة في لعبة الكتابة/ الاعتراف، والكتابة/ المزاج.

قصيدة «ابنة الماء والشرر» تقوم على بنية الاستدعاء، إذ تتحول هذه البنية الى فاعل يعبر عبر هاجس النداء ايه وهو استدعاء تذكيري حاد للأنثى عبر الفعل اعلم ، وتلبيس الوسيط اللغوي قناع المرقاب، للتعبير عن الاستيهام الذي ينشد التماهي مع الغائب، عبر تصعيد الإيقاع الحسي، بوصفه دالة موجهة، وبما يضفي على مشهد الاستدعاء طابعاً درامياً يستنطق عبره الشاعر جسده المغوي، جسده المسكون بتخيل الأنثى عبر حضورها وغيابها. هذه الثنائية ترتد الى منظور الذات بوصفها سيمياء تعبيرية عن القلق، قلق الغياب، وشهوة الحضور، إذ يحول فعل الارتداد الى ما يشبه التصعيد الداخلي، عبر توصيفات سردية، تحضر فيها الأنثى بوصفها الشغف والشبق المانح، والنافر، وعبر صورتها الحاضرة والغائبة، مقابل حضور الوسيط اللغوي، بوصفه وسيطاً للإحالة، أي وسيط الذات الرائية ومرقابها:

«إيه سيدتي …

أعلم أنك لا تطيقين عبثيتي

ولا ندف الثلج التي تغطيك بعد منتصف الليل

وأعرف أنك ابنة الذي تحت جلدي

الممسك بتلابيب الجنون الذي يعتليني

وأشهد أنك تصلحين للبقاء بين الشك والبلوى

لكني سأبقى أنكر عليك ما تدّعين …

حين تخبرينهم بأن العشب ما ضاجعك

ولا لامست ثمارك لعنات المطر»

يعمد الشاعر في هذه القصيدة الى توظيف مستويات تناصية وتذكرية، فالتناص يحضر عبر علاقة حسية بين فعل الخلوة الجسدي وقدسية الخلوة في النص القرآني، إذ تقدم إلينا بنية تصويرية يتجوهر فيها فعل الاستدعاء عبر الزمن ليل زمن الخلوة والاعتراف والبوح والعبث، وعبر المكان ذات الإيحاء الشبقي الأمكنة الخافتة، العشب ، مثلما يحضر فيها المستوى التذكري الرمزي والاشباعي، وهو يتماهى مع الاستدعاء تعبيراً عن هاجس الشاعر إزاء الفقد، وتعبيراً عن شعرية الوسيط اللغوي الذي يستدعي عبره الشاعر أنثاه، بوصفه حافزاً حسياً، لفعل الاستعادة:

«ليل …

ننتبذ فيه مكاناً شقيا

نسامر أنفسنا ونداعب الأمكنة الخافتة

ونتساقط على العشب سكارى

إيه سيدتي …

أعلم أنك مبهوتة حتى هذه اللحظة

ولا تفقهين من هلوستي سوى أصابعي

وإشارات الهذيان المتشدق بنفسه».

في قصيدة «بوح الجمر والخمر» تبدو النزعة الصوفية أكثر حضوراً فيها، وأكثر انشداداً نحو تحويل الصورة الشعرية الى حساسية شعرية، إذ تقوم على استحضار فعل الكشف عبر عتبة العنوان، وعبر عتبة الإهداء، فالجناس العنواني يسبغ دلالته على حمولات القصيدة الرمزية، مثلما يحمل الإهداء بعدا إشارياً للمكان الذي يهجس به حضور الصديق سعد حتر.فعل الحضور في الاستهلال هو فعل استنطاق لذات الشاعر وهي ترى عبر مرقابها الحدث الذي يتفجر، والذي يحضر عبر الوسيط اللغوي/ الشعري بوصفه رؤيا، أو مقاربة لمراثي الوجود، عبر صورة الأنثى والمكان، وربما هي ذاتها مراثي الشاعر في الفقد:

لم أمسح كآبتي …

لأنها محمّلة بصورة أم

هي نخلة في الجنوب

أنثى …

تقايض الجمر ببعض خمر

وتغالي …

بدفع اشتهاءاتها الى السماء».

…وبلعابد عبد الحق يضيء فتوحات محمد برادة

منطلقاً من رؤية نقدية تجمع بين التنظير والتطبيق، يحلل الناقد الجزائري أستاذ التنسيق المنهجي للغة وعربيّة التخصص في جامعة الجزائر، الدكتور بلعابد عبدالحق، في كتابه «فتوحات روائية… قراءة لمنجز روائي عربي متجدد» روايات الكاتب محمد برادة «لعبة النسيان» و»الضوء الهارب» و»مثل صيف لن يتكرر» و»امرأة النسيان». ويوضح بلعابد في مقدمته للكتاب: «إن الكيفية التي نتعقب بها فتوحات الرواية قراءةً، كنص يتشكل في نثر العالم ويشكله، من دون أن يعترف بانغلاقه الإيقوني، هي دائماً في خلق تخييلي جديد، فمن هذه الكيفية المنفتحة على استراتيجيات تحليلية متعددة جاء خوف القارئ من الرواية، فليست الرواية هي ما لا يمكن قراءته، ولكن القارئ هو الذي لا يعرف كيف يقرأ؟ لهذا فهي تقدم لكل قارئ خيارات استراتيجية لقراءتها. من هذا السؤال الكيفي المركزي: كيف نقرأ الرواية؟ وكيف نؤوّلها؟ انطلقت إجابتنا بالحفر في مفاصلها قصد القبض على معناها الهارب في مسالك التخييل، ليقع اختيارنا على روايات الكاتب المغربي محمد برادة، التي فتحت أمامنا أفقاً بحثياً جديداً لفهم مداخل النص الأدبي، وبنياته السردية، ومدى تفاعلها مع الواقع، فكانت روايات برادة عبارة عن شبكة من الاستراتيجيات الكتابية، لا تقدر على فكها و/أو تفكيكها إلا شبكة توازيها، لهذا استعنا بشبكة القراءة كوسيلة إجرائية لتحليل مثل هذه النصوص، لنشيّد من خلالها لعبة المعنى من جديد».

قسم بلعابد كتابه إلى مقدمة ومدخل وثلاثة فصول وخاتمة، ويلفت المدخل المنهجي إلى ضبط المصطلحات والمفاهيم الخاص بآلية معتمدة في استراتجيات القراءة التي حرص على تقريب حدودها ومحدداتها من القارئ، بادئا بتعريف القراءة كنشاط ذهني، ثم اجتماعي، ثم سينمائي، لتنضبط بعد ذلك اصطلاحياً. ويصل إلى تعريف ميثاق القراءة «الذي يعد من بين المحددات الأساسية لجنس العمل الأدبي، وكيفية تحليله»، وإلى التفريق بين مصطلحي المقروئية والقرائية في النص التي يحرّكها القارئ النصي الكاشف عن شعرية نصه، لنطرح بعد ذلك أسئلة مهمة حول النص وأسئلة المنهج التي من خلالها تتضح معالم البحث بعد أن تكون شبكة القراءة استكملت مكوناتها، وهي أولاً القراءة الشكلية التي تعنى بكل ما يحوط بالنص لتكتشفه عن قرب. ثانياً القراءة الداخلية التي تتناول بالدرس المكوّنات السردية المعروفة للنص، أما القارئ الذي يحركها فهو القارئ النصي. ثالثا القراءة الخارجية وتشمل كل ما هو خارج على النص لكنه يقوم في الوقت نفسه بتفسير النص وتشييد معناه.

في الفصل الأول يقدم بلعابد تعريفاً لكيفية انتقال جيرار جينيت من شعرية النص إلى شعرية المناص باحثاً لديه عن تحديد مصطلح المناص في كتابه «عـتبـات» الذي جعله مرتكزاً لبحثه في هذا الفصل، ليتعرض بعد ذلك إلى أنواع المناص وهي المناص النشري والمناص التأليفي، وليضيف إلى هذين النوعين اللذين ذكرهما جينيت نوعاً آخر أسماه المناص التخييلي ويراه مبثوثاً في ثنايا كتاب «عتبات»، إلا أن جينيت لم يصرح به نظراً إلى ما يكتنفه من تعقيد، فأراد إخراجه إلى ميدان البحث مجتهداً في الكشف عن آليات اشتغاله.

الفـصـل الثـانـي خصصه بلعاد لدراسة ما يعرف بالمداخل النصيّة، وهي من المباحث النقدية الجديدة، مركزاً على مفصلين مهمين هما الفاتحة النصيّة والخاتمة النصيّة مثلما تظهران في روايات محمد برادة. وهذان المفصلان لم يعتن بهما النقد العربي الحديث، رغم من اهتمام البلاغة العربية القديمة بهما، إذ اعتنى البلاغيون بحسن البدايات وحسن النهايات.

الفصل الثالث عبارة عن قراءة تناصية لأعمال محمد برادة الروائية، ويعود بلعابد إلى مصطلح التناص بين التنظير والإنجاز، ويقسمه على المستوى المنهجي إلى تناص داخلي يبحث فيه عن الكيفية التي تناصت بها روايات محمد برادة بعضها مع بعضها الآخر لناحية الأشكال والمواضيع والأزمنة والأمكنة والشخوص. ويتطرق بالبحث إلى تلك الجزئية المتعلقة بالتعالق النصي بين روايتي «لعبة النسيان» و»امرأة النسيان» وأين يظهر التعالق بينهما جلياً على جميع المستويات الزمان، المكان، الشخصية وإن اختلفتا في بعض الرؤى والمنطلقات.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى