الخلافات الأميركية ـ «الإسرائيلية» والرهان الخاسر
رامز مصطفى
كُثر هم المحللون والصحافيون الذين يقعون في الخطأ عندما يسقطون تمنياتهم الشخصية على الأحداث، من خلفية ما يتبنّونه من مواقف أو رؤى سياسية. هكذا هي حال ما هو متداول هذه الأيام، عن خلافات عميقة وحادة بين الإدارة الأميركية بشخص رئيسها أوباما ووزيره كيري ومستشارة الأمن القومي سوزان رايس من جهة، والكيان «الإسرائيلي» بشخص رئيس حكومته نتنياهو ووزير دفاعه يعالون وبعض طاقمه الوزاري.
نكون من السعداء إذا ما وقع الخلاف بينهما، ولكن التمنيات شيء، والوقائع والحقائق شيء آخر. وهؤلاء المهللون والمروّجون أن هناك ثمة خلافات حادة بين الإدارة الأميركية وربيبتها «إسرائيل»، على خلفية عدد من الملفات الإقليمية والمحلية ويتصدّرها ملفا النووي الإيراني، والمفاوضات مع الفلسطينيين، إما أنهم لا يقرأون جيداَ الخلفية التاريخية والدينية التي تقف وراء هذه العلاقة. أو أنهم يبنون مواقفهم وتحليلاتهم على تطور الأحداث، التي تتبدّل فيها المصالح حسب طبيعة الأهداف المتوخاة من وراء هذه الأحداث التي تقف الولايات المتحدة و»إسرائيل» وراء معظمها، وخصوصاً ما تشهده المنطقة من أحداث كبرى، وتحديداً ما تتعرّض له سورية بهدف إسقاط الدولة بمكوناتها ومقدراتها لصالح مشروع تطويع المنطقة خدمة للمصالح الأميركية، وحماية أمن «إسرائيل». قد يبدو الأمر الثاني أقرب إلى الواقعية منه إلى التخيّل، ولكن العلاقة بين الولايات المتحدة و»إسرائيل» مستثنية من ذلك، لأنّ الناظم في هذه العلاقة وتحديداً من الجانب الأميركي، لم يقم على أساس أدوات ضغط «اللوبي الصهيوني» وحسب، والتي نشأت أولى مجموعاتها في الولايات المتحدة على يد رجل الدين البروتستانتي «بلاكستون» في العام 1887 لصالح إقامة «دولة يهودية» في فلسطين. بل قامت على أساس ما لعبته المؤسسات والهيئات الدينية المسيحية الأصولية المتشددة في أميركا، في توفير البيئة المناسبة للالتزام المطلق بـ»إسرائيل»، من قبل السياسة والرأي العام في أميركا. وبالتالي دفع هذه السياسة نحو رؤية محدّدة في التعامل مع مسألة الصراع العربي ـ الصهيوني، على أساس ناظم ثابت وهو الانحياز الكامل للكيان الغاصب. وهذا ما أحسنت «إسرائيل» في استخدامه من أجل تحقيق مصالحها وأهدافها. وما صرح به بريجنسكي، مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس كارتر بأن «على العرب أن يفهموا أنّ العلاقات الأميركية » الإسرائيلية»، لا يمكن أن تكون متوازنة مع العلاقات الأميركية العربية، لأنّ ما بين الولايات المتحدة الأميركية و»إسرائيل» علاقات حميمة، مبنية على التراث التاريخي، والفاعلية التي تتعزز باستمرار من خلال النشاط السياسي لليهود الأميركيين، بينما العلاقات الأميركية العربية، لا تحتوي على أيّ عامل من هذه العوامل»، يمثل الصورة الجلية عن مدى عمق العلاقة بينهما، والتي لا يمكن ومهما بلغت حدة الخلافات أن تنفصم عراها. وهذا ما أكدت عليه التحوّلات الاستراتيجية في العلاقة بينهما منذ التوقيع على اتفاقية التحالف الاستراتيجي في العام 1980 . وإدارة الرئيس بوش الابن مثلت هذا الاتجاه الديني المتعصب في مرحلة حكمها للبيت الأبيض، وأدارت معاركها في المنطقة على هذا الأساس. مصدرة عنوان «الحرب على الإرهاب» لتبرير حروبها، وتدخلها المباشر في إسقاط فاضح، أنّ حرب فيتنام آخر حروب الولايات المتحدة خارج أراضيها. ولعل التطرق إلى عينة من مواقف الإدارة الأميركية حتى العام 1948، المؤيدة والمشجعة على أحقية اليهود في إقامة وطن لهم على أرض فلسطين، ومن ثم الاعتراف بالكيان «الإسرائيلي» فور الإعلان عنه في أيار من العام 1948. يُظهر بشكل جلي ومن دون أيّ لبس حقيقة هذه المواقف، ومن ثم عمق العلاقة التي تولتها الولايات المتحدة بديلاً عن دور المملكة المتحدة. فقد أعلن الرئيس الأميركي ويلسون في بيان أصدره للشعب الأميركي بعد الإعلان عن «وعد بلفور المشؤوم في 2 تشرين الثاني من العام 1917»، فقال: «أنا مقتنع بأنّ دول الحلفاء بالاتفاق مع حكوماتها وشعوبها، قد اتفقت على أن ترسي في فلسطين أسس كومنولث يهودي». وعلى خطاه سار «مجلسا الشيوخ والنواب» الأميركيين اللذين أقرا في العام 1922، وفي جلسة مشتركة تأييدهما في إنشاء «وطن قومي لليهود» على أرض فلسطين. وفي العام 1942 سارع الرئيس الأميركي روزفلت بتأييد تحويل فلسطين إلى «دولة يهودية»، وهو من أجل تحقيق ذلك وافق على ضرورة منح اليهود حرية الهجرة إلى فلسطين من دون أية قيود أو شروط تحول دون ذلك. وفي عهد الرئيس ترومان، جهد من أجل حث رئيس الحكومة البريطاني كلمنت أتلي، على السماح لمائة ألف يهودي في أوروبا على الانتقال إلى فلسطين على نفقة الولايات المتحدة، هرباً مما يدّعونه حرب الإبادة النازية بحق اليهود. وهو ذاته ترومان من اعترف بـ»الدولة اليهودية» فور الإعلان عنها في أيار من العام 1948.
وقد واظبت كلّ الإدارات الأميركية التي توارثها على الدوام الحزبان الديمقراطي والجمهوري، على التأكيد على لازمة عناوين العلاقة الاستراتيجية بينهما والكيان الصهيوني، أنّ أمن «إسرائيل» ودعمها سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، وبكلّ سبل البقاء ومن ثم الاستمرار على تفوّقها في المنطقة. وبالتالي حمايتها من المساءلة القانونية والأخلاقية على جرائمها المرتكبة بحق الفلسطينيين يمثل بالنسبة للأميركيين الخط الأحمر الذي دونه الحرب. وهذا موثق ومؤكد عليه في كلّ أدبيات الخطاب الأميركي والسياسات المتبعة لدى الولايات المتحدة ورؤسائها منذ عهد الرئيس ويلسون، وليس آخرهم الرئيس أوباما، الذي يخطف هذه الأيام الأضواء بسبب ما قيل ويقال عن خلافه مع نتنياهو، وبالتالي نعته من قبل بعض المسؤولين الأميركيين بتوصيفات تُدلل على مدى الانزعاج من السلوك الذي يتبعه نتنياهو وبعض أعضاء ائتلافه الحكومي. وهذا ما أكده الصحافي الأميركي جيفري غولدبيرغ، على موقع «أتلانتيك»، ناسباً الكلام إلى مسؤول أميركي الذي قال عن نتنياهو إنه «شخص حقير»، وإنّ «العلاقات الأميركية ـ الإسرائيلية قد وصلت إلى قمة من التوتر». وعزى غولدبيرغ السبب في توتر العلاقة ووصف نتنياهو بالحقير إلى أنه يتمسك بمنصبه، ومستمرّ في مشروعه الاستيطاني، وفي نقل اليهود المتطرفين إلى المناطق الفلسطينية.
وأضاف غولدبيرغ بأن نتنياهو قد أبلغ «الحكومة الإسرائيلية المصغرة»، يأسه من أوباما كلياً، وأنه في حال حصول اتفاق مع الإيرانيين بشأن الملف النووي، فإنه يعتزم بدء حوار مع الكونغرس مباشرة، وسيخاطب الشعب الأميركي متخطياً أوباما». وقال رئيس مؤسسة الشرق الأوسط في واشنطن ماثيو داس، إن نتنياهو «قد انضمّ إلى صفوف خصوم الرئيس الأميركي أوباما، مزاحماً في ذلك كلاً من الجمهوريين في الكونغرس، وإيران وروسيا.
صحيح أنّ العلاقات الأميركية «الإسرائيلية» وعلى متانتها وقوّتها، قد مرّت في كثير من المراحل بإشكالات وخلافات، لكنها سرعان ما تنتهي في أغلب الأحيان لصالح الكيان الصهيوني، على اعتبار أنّ العلاقة بينهما استراتيجية وليست ظرفية تمليها طبيعة وظروف المراحل والأحداث. وهناك الكثير من الشواهد والمحطات التي شهدت توترات في العلاقة بين الحليفين الأميركي و»الإسرائيلي»، ليست في جانبها السياسي، بل تعدته إلى الأمني وعمليات التجسّس على تنوّعها التي نفذتها الأجهزة الأمنية في الكيان ضدّ المصالح الأميركية داخل الولايات المتحدة وخارجها. ولعلّ قضية الجاسوس جوناثان بولارد الشهيرة، والتي لا تزال عالقة بين الطرفين، ولم تترك «إسرائيل» مناسبة إلاّ وطالبت الإفراج عنه، حتى عمليات الإفراج الأخيرة عن الأسرى الفلسطينيين من سجون الاحتلال، كانت قضية بولارد موضع ابتزاز من قبل «الإسرائيليين» بهدف الإفراج عن جاسوسهم، وغيرها وغيرها من القضايا ذات الحساسية العالية، مما دفع أجهزة الاستخبارات الأميركية من الكونغرس عدم الموافقة على إعفاء مستوطني الكيان من دخول الأراضي الأميركية بدون تأشيرات مسبقة، بسبب عمليات التجسّس التي تنفذها «إسرائيل» على الأراضي الأميركية. ولكن كلّ هذه الخلافات والتجاوزات والاختراقات وعمليات التجسّس، والضرب بعرض الحائط بالمطالبات الأميركية بضرورة إبداء المرونة في ملف المفاوضات والاستيطان والتهويد في القدس من قبل الحكومة «الإسرائيلية». إلاّ أنّ العلاقات تبقى راسخة وثابتة وغير قابلة للتغيّر بين الطرفين. ولعلّ السلوك السياسي للدول العربية والجامعة العربية والسلطة الفلسطينية المهادنة، والغير حاسمة، بل والمتهاوية في مواجهة الصلف «الإسرائيلي»، ورفع الصوت في وجه الإدارة الأميركية، في البحث الجدي عن الخيارات البديلة عبر ضغط عربي إسلامي قوي وفاعل، من أجل دفعها إلى أن تختار بين مصالحها مع العرب والمسلمين، وبين مصالحها مع الكيان الصهيوني. هذا التراخي والمهادنة ووضع البيض في السلة الأميركية قد أسهم بشكل كبير في تمادي هذه العلاقة الثنائية بين أميركا والكيان في مخططاتها وبرامجها على حساب قضايا الأمن القومي، وفي مقدمتها القضية الفلسطينية، والقدس اليوم بما تتعرّض له من تهويد واستباحة شاهد على سياسة المهادنة والتخلي التي تمارسها هذه الأنظمة والجامعة العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي.
قد يكون نتنياهو، ومن موقعه، الشخصية «الإسرائيلية» الأبرز في دفع الأمور بينه وبين الإدارة الأميركية إلى دفع التناقض والخلاف إلى مستويات غير مسبوقة، وكما أنّ هذا الخلاف ليس الأول، فلن يكون الأخير. ومهما تعاقب على الإدارة الأميركية والبيت الأبيض من ديمقراطيين أو جمهوريين تبقى العلاقة محكومة بأسس وثوابت السياسة التي عمل ويعمل عليها الخبراء في مراكز الأبحاث والدراسات، ومراكز الضغط من أصحاب الشركات الكبرى سواء التصنيع العسكري أو البترول والمصارف والبنوك وغيرها. فهذه السياسات لا تصنعها الإدارات المحكومة بمنظومة المصالح لهذه الشركات ومراكز الأبحاث والدراسات، والتي في مجملها متأئرة إذا لم يكن مسيطراً عليها من قبل اليهود الصهاينة. وعليه فإنّ جميع الخلافات بين البيت الأبيض والإدارة الأميركية والكيان الصهيوني تجد طريقها إلى الحلّ. وعلينا ألاّ نجعل تحليلاتنا أسيرة تمنياتنا وإسقاطاتها.
ولا بأس في التذكير أنّ الانتخابات النصفية في الولايات المتحدة قد أفضت إلى فوز كاسح للجمهوريين على حساب الديمقراطيين، مما يعني أنّ نتنياهو سيبدأ في الإفلات مرة جديدة من دائرة محاصرة إدارة الرئيس أوباما له، لأنّ الفترة المتبقية من حكم إدارة أوباما ستكون محكومة في قراراتها من قبل خصومه الجمهوريين. الرهان على خلافات أميركية ـ «إسرائيلية»، كما الرهان على حصان أعرج في سباق نهايته الخسارة.