التشكيليّة رانيا بحلق: أجد سكيني في اللون الأسود… ولا أؤمن بما يُسمّى الحداثة
رنا صادق
«مذ كان لا يزال ذلك الكائن المجهول المنتصِب القامة على البسيطة، قدمه وتد في الأرض، والهامة مرسلة تهيم في السماء، كمن يترقّب التقاط ذبذبات الفضاء… مدى بصره ينتهي حيث اتصال الأرض بالسماء.
هذه حالة في كل آن… يرمي بطرفه إلى السماء البعيدة القريبة، إلى ما وراء حجب الظلام المسدودة توقاً إلى النور، فيرجع السحر إلى أعماق وعيه السحيقة، ثم يرجع البصر كرّة أخرى إلى ذاته الطافية إلى غشاء الواقع المسطّح فتتجلّى الرؤيا مرآة تتقلب فيها صورة الكون. وإذا السموات والأرض نقطة، تنفجر فتنتشر وتسكن فتنسحر في اتساع وطي، في كل لحظة وعي.
ولأنه كذلك، كان الإنسان مختزل الكون بما حوى من كائنات، ينعكس وجودها فيه ووجوده فيها، تشكل وعيه ويشكلها بوعيه، أي بإرادته النسبية، فهو محكوم بالحرية في هذه الأرض المجبول من طينها، متأرجح حيناً ومشدود حتى التمزق أحياناً بنى عالمين، بين عليين والطين. بين الاستسلام والتمرّد، بين عالمين بل عوالم تسكنه، بين ارتفاع وهبوط وارتقاء وسقوط، في أرض هي جنّة كثيراً ما حوّلها إلى حبس جحيم، غُبط لأجلها من الملائكة أجمعين وقد أمروا: فإذا سوّيته فقعوا له ساجدين . فالجدير بأرض الملائكة أن تكون «لملائكة الأرض».
ملائكيته دنّست بجهالته، بتجرّد الإنسان من الإنسان.
فغدت أرض الملائكة موحشة، تائهة، متسائلة:
أين إنساني الملاك؟ ارجع لذاتك كي أراك!
لكنه كبّل نفسه كالدمى، بخيوط وهم… ليس يمكنه الحراك، قد صلب الإنسان إنسانه، مزّقه، شنقه، وصنّمه.
علّقه أمام نافذة الغيوب، فتدلّى شفقاً يحكي الغروب.
من هنا ولد تصوّر الموضوع وعمد أرض الملائكة، ليكرّس التساؤلات القديمة قدم التاريخ، حول الشرط الإنساني، الآن وهنا، بكل أبعاده دون إغفال أو إهمال أي بعد فاعل في تشكيل واقعه».
ترادفت هذه الكلمات، كلمات من «أرض الملائكة» أثناء تجوالي في معرضها كلمات الفنانة التشكيلية رانيا بحلق التي عرّفت بها عن فحوى معرضها. هذا معرض أبى أن يكون مسالماً دون قيود، حرّاً دون محاسبة، مسؤولاً دون مراقبة، باختصار هو معرض نبع من الطفولة وطفا على وتر ممدود بين السماء والأرض، ولا شيء بينهما.
ثبات وعزيمة، خطى واثقة، خطوط واضحة تتلألأ على حواف الخلفية السوداء الفرحة. ألوان هنا وضحكات هناك وفي كل لوحة عليك أيها الزائر أن تنظر تتأمل وتعود إلى الوراء ثم ترى المستقبل في ثوانٍ معدودة.
هذا المعرض جاء تحت عنوان «أرض الملائكة» يختصر سيرة، طفولة ومستقبلاً، حيث لم تسمح الفنانة رانيا بلحق لنا سوى باختيار الصفاء والراحة مجلجلة بضوضاء الواقع، على أرضها الخاصة، أرض ملائكتها.
بحلق جرّدت الملائكة، عمدت إلى اختيار السعادة طريقاً لها، وأنعشت قلوب الزائرين برسومها الإنسانية المعهودة. ليس طيف خيال هو حنين، بل قالب من الحقيقة برحم الفن مولود، حقيقة آلمت صاحبته رافقتها طويلاً، حيث تجسّد الملاك في ذهنها على أنه المراقب، المحاسب ومأمور.
من هنا، تأتي عالمية الفنانة رانيا بحلق التي أنجزت بروحها عملاً فردياً يستحق الألقاب، ويستحق الانفتاح على العالم، لأنها ماثلت الفنّ بروحية الواقع والتمست النجاح بأطرافها لها كلّ الحق في تمثيل لبنان خارجاً، لأنها «قدوة الفنّ».
وفي عطاء بحلق قوة الاستمرار والمواظبة والمتابعة لأجل أبجدية فنّ ولغة مشعلاً لطريقها الصاعد ألواناً ورؤى.
«البناء» التقت الفنانة التشكيلية رانيا بحلق وتزاحمت الألوان في حديث الفنّ والإبداع، بحوار يأتي نصه..
لاقى معرض «أرض الملائكة» قبولاً واستحساناً من جميع زوّاره في صالة عرض «ف ارت»، فقد دعم رئيس الحركة الثقافية في لبنان الأستاذ بلال شرارة المعرض الذي يتابع عن كثب وعلى الدوام أخبار الفنانين والشعراء ويلاحق أي حدث فني ثقافي في لبنان.
فرادة الأبيض والأسود
تقول بحلق: أنا راضية عن الإنتاج الفني في المعرض والإقبال عليه، وقد تمكنت من إيصال رسالتي التي وضعتها في مبتغاي. ومعظم الآراء كانت متقاربة حول أنها المرة الأولى التي ينظرون إلى اللون الأبيض والأسود ويجدونه سعيداً وفرحاً.
الرسالة التي تحاول بحلق إيصالها تنطوي باختصار على أرض الملائكة، حيث تقول: الملاك هو لازمكان، أي الملاك لا مكان له أو زمان، وأنا جعلت له أرضاً يسكنها، بمعنى آخر حولّته مادة في معرضي ووضعته في الكادر الذي أريد.
وأضافت: نحن نمجّد الماورائيات والايديولوجيات، لكن اليوم كما نشهد في معرضي قمتُ بوضع الملاك في مادة حيّة ملموسة في إطار الواقع الذي نعيشه. الإنسان يمجّد الأشياء التي لا يراها ولا يدركها بحواسه، لذلك قلبت المقاييس وجعلت للملائكة أرضاً ملموسة وجعلتهم يعيشون مع المواد التي حولنا ويتفاعلون معها بطريقة ليست عبثية، بل بكادر يحمل في طيّاته حكايات تخصني وتخص العالم من حولي.
ومن المواد التي استخدمتها بحلق في معرضها السيارة، الطعام، والمقصّ وغيرها من مواد خاصة بالإنسان نسبتها بحلق للملاك، ووضعته في إطار يجمعه تارة بالإنسان وتارة بعالمها الخاص الرحب.
«لا جديد تحت الشمس»
ترى بحلق أن لا يوجد ما يُسمّى بعصر حالي وعصر سابق، فتقول: «لا جديد تحت الشمس»، وتبرر قولها بأن الحياة دائماً تكرر نفسها، تتغير الألوان فيها وتتطور الصناعات، لكن النفوس البشرية ما زالت نفسها منذ بدء التكوين حتى الآن.
وتضيف: لا جديد في هذا الزمن ولا يوجد ما يسمّى «عصرنا»، فاذا نظرنا إلى الإنسان ما قبل التاريخ نجد أنه أبدع أكثر من الإنسان الحالي، لأنه لم تكن لديه الوسائل، لكننا اليوم نستخدم المواد والأساليب الموجودة في الأساس. لذلك لا أؤمن بما يسمّى عصراً حديثاً أو حداثة إطلاقاً.
«أرض الملائكة»… طفولة وأكثر
اختارت بحلق الملاك لأن الملاك حاضر دائم في حياتها منذ أن كانت طفلة، الملاك هو الذي ينتظر دائماً أن تتصرف بسلوك حسن وجيد. الملاك هو مراقب الطفلة الدائم وكان يتوجب عليها أن ترضي هذا الملاك وتكون عند حسن ظنه.
وتقول عن ذلك: من خلال هذا المسار على مرّ السنين تعبت من الملاك، تعبت من مراقبته لي، كما أنني لم أعد أريده أن يراقبني لذلك حين كبرت انتفضت عليه وقررت أن أقوم بدوره الرقابي وأضفته إلى لوحتي ووضعته في الكادر الذي أريده وأسيطر عليه كما سيطر عليّ في صغري كثيراً.
هذا الملاك الماورائي الذي حولته بحلق مادة تتحكم به بعقلها ولوحتها وأناها، هو الأقرب إلى سلوكها وانضباطها.
راحة وسكينة
وعن استخدامها اللون الأسود خلفية لجميع اللوحات، قالت: أستخدم الأسود لأنه لون السكينة والهدوء والراحة. فأنا حين أنام أطفئ النور، وحين أتعب أغمض عيني، فهذا اللون ليس لون الحزن بل لون الراحة والاطمئنان، وفي لوحاتي يعبر عن هذه السكينة والراحة، لذلك أستخدمه بمفهومه الحقيقي لأي لون وُجد على الأرض.
في إحدى اللوحات ربطت بحلق بين الملاك والرسوم الكارتونية والطائرة والمولود الجديد بفعل ومزيج خيالي يأخذ المتفرّج إلى عالم أكثر جمالاً وحلاوة بغرابة معهودة تشبه شخصية بحلق إلى حدّ ما.
وتختتم بحلق حديثها بالقول: الفنان طفل، لا يريد أن يكبر، هو الطفل الوحيد الذي يعرف التعبير بصدق وحقيقة، لذلك نريد أن نبقى بهذا العالم، عالم الصدق والحقيقة وعدم النفاق.