القصة القصيرة جداً بين التأطير وتحوّلات الفنّ القصصي
دكتورة دريّة كمال فرحات
القصة هي مجموعة من الأحداث يرويها الكاتب القاص وهي تتناول حادثة أو حوادث عدّة، تتعلّق بشخصيات إنسانيّة مختلفة، تتباين أساليب عيشها وتصرّفها في الحياة، على غرار ما تتباين حياة النّاس على وجه الأرض. ويكون نصيبها في القصة متفاوتًا من حيث التّأثّر والتّأثير. والسرد القصصي يعتمد على تمكين كلّ شخص من تحويل قضاياه اليومية أثناء مشاركتها مع الآخرين لقصة مثيرة للانتباه. وقد أفاض النّقاد في تعريف القصة وفنّ السّرد، وأظهروا الفرق بين أنواع السّرد والقصّ. يعرّف فؤاد إفرام البستاني القصة، فيقول: «القصة هي تتبّع وتقصّي أخبار النّاس وفعالهم شيئًا بعد شيء أو حادثة بعد حادثة». ويقول جبور عبد النّور إنّها «أحدوثة شائقة، مرويّة أو مكتوبة، يُقصد بها الإقناع أو الإفادة».
وقد عرفت القصّة، خلال تاريخها الطويل، أنواعًا من القصّ عديدة، ففي كلّ مرحلة من التّاريخ كان القاص يجسّد تجربته ويرشح برؤيته إلى عالمه، وينهض بأداء مهمّات الأدب في المرحلة التّاريخيّة التي يتشكّل في سياقها، فكانت في القديم الحكاية بمختلف أشكالها والأسطورة والحكاية الخرافية والأمثال وحكاياتها والأسمار، والسّيرة والمقامة…، وفي العصر الحديث القصّة القصيرة والرّواية.
وبما أنّ وتيرة الحياة دائمًا في تغير وتقلّب فإنّ الأدب يتأثر بهذه المتغيّرات، ما يُسهم في ابتكارات أدبيّة، وفي ظهور أجناس أدبيّة تنطلق من الموجود لتصنع جديدًا. وهذا الجديد يحتاج إلى نقدٍ تجاوزيٍّ يفتح آفاقه على أبعادٍ مختلفة.
من هنا فقد ظهر في العالم العربيّ منذ منتصف القرن الماضي القصة القصيرة جدًا كجنس أدبيّ مستحدث، متأثرًا بمجموعة من الظّروف الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة والاقتصاديّة. وكلّ جديدٍ لا بدّ أن يواجه مواقف نقديّة متعدّدة، فهو يبدأ حييًّا خجولًا إلى أن يثبت مكانته، وقد أشارت الناقدة نازك الملائكة في كتابها «قضايا الشعر المعاصر»، إلى أنّ المجتمعات تقف من محاولات التجديد موقف الريبة والتحفّظ، فلا تقبل الجديد إلّا بعد رفض طويل، ومن الملاحظ أنّ هناك ثلاثة مواقفٍ نقديّةٍ تواجه أيّ جديد، الأوّل موقفٌ مدافع، والثاني موقف سلبيّ، والثالث موقف متردّد وحذر.
ولم يسلم ظهور القصة القصيرة جدًّا كجنس أدبيّ من هذه الاتّجاهات الثلاثة، وبدأت المحاولات في تحديد هذا الجنس الأدبيّ. ومن هنا فإن ملتقى الأدب الوجيز يفتح الآفاق على هذا المفهوم وتبيان خصائصه ووضع الأسس النقديّة له. والوجيز، لغويًّا تعني الموجز والمختصر، والوجيز هو الكلام القصير السريع الوصول إلى الفهم. فهذا المفهوم جديد قديم، قديم بنسبته إلى علم المعاني الذي يهتمّ بدراسة طبيعةِ ألفاظ اللغة العربية التي تتطابق مع الحال المرتبطة به، وبالتالي تختلف طبيعةُ اللفظ مع اختلاف الحال. يهتمّ هذا العلم باللفظ من حيث فائدتُه في المعنى، أي مع الغرض الذي يدلّ عليه في سياق النص. وقد قام بتأسيس علم المعاني الشيخ عبد القاهر الجرجاني، وتفرّع علم المعاني إلى أقسام متعدّدة منها الإيجاز والإطناب والتساوي. فالإطناب هو زيادة اللفظ على المعنى لفائدة ويكون بالترادف، والمساواة تساوي اللفظ والمعنى، فيما لم يكن داع للإيجاز والإطناب. وعليه فالإيجاز هو صياغة كلام قصير يدلّ على معنى كثير وافٍ بالمقصود.
إنّ الدخول في عوالم المصطلحات يقودنا إلى قضية الشكل والمحتوى، وهي قضية شغلت أدمغة الباحثين قديمًا وحديثًا، ودفعت بيراعهم إلى الإبداع والتعبير. وقد شكّلت هذه القضية عاملًا مهمًّا في تأطير الجنس الأدبي وتحديد سمات النوع الأدبيّ الذي يقود حتمًا إلى الاعتقاد بوجود معيار للتصنيف له قدر من الثبات والتحدّد، ويتحدّد الجنس الأدبي بوجود قواسم مشتركة أو مختلفة بين مجموعة من النصوص.
والإشكاليّة المطروحة الآن هل القصة القصيرة جدًّا جنس أدبيّ؟ وما هو المصطلح الدقيق المطروح حول هذا الجنس الأدبي؟
الجنس الأدبيّ هو مجموعة من النّصوص المصنّفة على أساس بعض السّمات المشتركة، وقد يخضع لنماذج نصل من خلالها إلى وضع قوانين للجنس، تحدّد من قبل أذواق الجمهور، وقد تتطوّر هذه الأجناس الأدبيّة على مرّ الحقب التاريخيّة، فمنها ما يبقى أو يمكن إبداع أجناس جديدة، أو تطوير الأجناس القديمة، ويمكن للأجناس غير المنتجة أن تظل بما أنّ النصوص الحيّة التي تمثّلها ما زالت موجودة.
وعليه فإنّ الآراء تعدّدت حول القصة القصيرة جدًا فمنهم من رأى أنّه نوع من أنواع القصّ، ولديه أدواته الخاصة، والبعض الآخر رأى أنّها جنس أدبيّ مختلف، ومهما كان الأمر فإن ظهور القصة القصيرة جدًا استدعته الظروف الجديدة وأصبح الذوق العام يتطلّبه مع إيقاع الحياة الجديدة السريعة، وقد تعدّدت الأسماء التي أُطلقت على هذا الفنّ ومنها: القصة القصيرة جدًا، لوحات قصصيّة، ومضات قصصيّة، مقاطع قصصيّة، القصة البرقيّة، خواطر قصصيّة، فقرات قصصيّة وغيرها..
ولعل تسمية هذا النّوع بالقصة القصيرة جدًا هو التسمية الأكثر دقة، لأنّنا بذلك ننطلق من الأنواع التي يتّسم بها فنّ السّرد أي الرواية والقصة والأقصوصة والحكاية، وصولًا إلى القصة القصيرة جداً، واختيار هذه التسمية يرتبط بخصائص هذا النّوع الذي يتميّز بالحفاظ على الطبيعة السرديّة، من خلال اعتماد عناصر السرد أي الحدث والشخصية والمكان والزمان وما فيه من استرجاع واستباق والحوار أو المونولوج ولغة وأسلوب وسارد وزاوية رؤية أو تبئير. كما يتّصف هذا النوع بقصر الحجم والاعتماد على الإيحاء المكثف، بالإضافة إلى سمة التلميح والاقتضاب، واعتماد النفس الجملي القصصي المرتبط بالحركة والتوتر مع الميل إلى الحذف والإضمار، أمّا لغة القصة فقد تميل إلى لغة فيها الانزياح والصورة والخيال.
وتجدر الإشارة إلى أنّ القصة القصيرة جدًا التي تعتمد على هذه العناصر، فإنّها لا تشترط توافرها بأكملها في القصة نفسها، إنّما يمكن أن تركّز على عنصر منها أو على عناصر عدّة، وما يهمّ هو التكثيف والإيجاز، والأهم هو قيامها على مبدأ الإدهاش.
إنّ القصة القصيرة جدًا مولود انطلق من رحم الحياة الجديدة، متكئًا على جيناته من داخل النّوع، باحثًا عن كينونته من مصطلحات السرد منطلقًا إلى عالم جديد يتماهى مع متطلبات العصر.
عضو في ملتقى الأدب الوجيز