كيف ستؤثر قضية الخاشقجي والمعاهدة النووية على ملفات المنطقة؟
العميد د. أمين محمد حطيط
من البديهي القول إنّ الأيام الفائتة حملت من الأحداث والمواجهات الدولية ما لن ينحصر بتداعياته وآثاره في محلّ حدوثه أو بين أطراف الاشتباك فيه، لأنها أحداث جاءت من طبيعة تؤثر على المشهد الدولي ويتأثر بها أطراف أوسع من المشاركين والمعنيّين مباشرة بها، وتأتي في طليعة هذه الأحداث قضية قتل جمال خاشقجي في اسطنبول على يد السعودية، وقضية انسحاب أميركا من المعاهدة النووية مع موسكو، فما هي مفاعيل هذين الأمرين على المنطقة عامة وعلى الملفات الساخنة فيها خاصة؟
بالنسبة للحدث الأول، بات معلوماً أنّ الجريمة ارتكبت بقرار سعودي اتخذ من أعلى المستويات في المملكة، ولم تستطع كلّ المواقف والبيانات السعودية بشكل متناقض ومتواصل أن تحجب مسؤولية القيادة السعودية عن جريمة تحوّلت إلى قضية رأي عام دولي، ولم يعد بمقدور أحد مهما بلغت قدرته ان يتجنّبها او يحجبها. كذلك فإنّ التضحية برؤوس أمنية وسياسية هامة في الدولة السعودية لن يمكّن المسؤولين الحقيقيين عن الجريمة من الإفلات من المسؤولية التي وانْ لن تكون قضائية كما هو الأرجح، فهي قد تكون سياسية الى الحدّ بالمسّ بموقع محمد بن سلمان ولي العهد، الأمر الذي سيؤثر بشكل مباشر على ملفات في المنطقة تعتبر السعودية وتحديداً ابن سلمان صاحب اليد الطولى فيها لاعباً أو فاعلاً أو شريكاً، طبعاً فإننا لا ننضمّ هنا إلى من يغالي في القول بالمحاسبة الغربية للسعودية إلى حدّ القول بالقطيعة معها لأنّ مصالح الغرب في السعودية أكبر عندهم بكثير من حياة صحافي سعودي أو الآلاف من الناس.
أما بالنسبة للحدث الثاني والمتمثل بانسحاب أميركا من معاهدة الصواريخ النووية، فهي وانْ لم تكن من قبيل الإجراءات ذات المفاعيل والتأثير المباشر والفوري فإنها من طبيعة التصرفات ذات البعد الاستراتيجي، والتي من شأنها أن تحكم تصرفات واستراتيجيات الأطراف أولاً ثمّ سلوكيات من يرى انّ مصالحه الأمنية والعسكرية ستتأثر بها وتكون أوروبا والصين في طليعة هؤلاء.
وقبل الحديث عن المفاعيل لا بدّ من الإشارة الى الخطوط الرئيسية للمعاهدة النووية التي وقعها في العام 1987 ميخائيل غورباتشوف رئيس الاتحاد السوفياتي مع رونالد ريغان رئيس الولايات المتحدة، وقضت بوقف نشر وإنتاج الصواريخ النووية المتوسطة المدى بين 500 و5500 كلم، وهذا الأمر وفّر حماية في المنطقة القريبة لأوروبا والصين رغم أنهما ليسا طرفاً في المعاهدة، كما أنه هدف الى وقف السباق في التسلح النووي بين القطبين الموقعين، وأبعد إلى حدّ ما شبح خطر حرب نووية بين العملاقين الروسي والأميركي. ومع انسحاب أميركا من هذه الاتفاقية نتوقع أن تتحلّل روسيا من التزاماتها فيها، ما يعني عملياً سقوط الاتفاقية والعودة الى سباق محموم بين القطبين تعمل فيه موسكو على عدم تمكين أميركا من السيطرة النووية استراتيجياً، لأنّ مثل هذه السيطرة قد تكون تعويضاً عن الفشل الأميركي في إقامة النظام العالمي الأحادي القطبية، ولن يكون سهلاً على روسيا أن تجد مكتسباتها الدولية التي حققتها خلال الأعوام العشرة الماضية تجدها تتناثر وتضمحلّ من باب التسلح والانتشار النووي. وسيكون الردّ الروسي برأينا متمثلاً في اتجاهين: الأول في الملفات الخارجية والثاني في السياسة التسليحية والنووية.
فعلى صعيد التسليح والترسانة النووية ستجد روسيا نفسها ومن أجل المحافظة على التوازن النووي الاستراتيجي مع أميركا مضطرة للعودة إلى مجال التصنيع والنشر التي حظرتها المعاهدة، وبحاجة ايضاً إلى تفعيل علاقاتها الدولية أقله مع دول الجوار الروسي من أجل بلورة علاقات تحالفية تمكّنها من إقامة مناطق الحيطة والأمن النووي القريب والمتوسط، الأمر الذي سيدفعها أيضاً الى التشدّد في إدارة الملفات الإقليمية القريبة والمتوسطة البعد عن الحدود مع الاتحاد الروسي. وتأتي في طليعة ذلك منطقة الشرق الأوسط وسورية تحديداً التي سيكون التشدّد الروسي فيها في مستوى لم يعهد من قبل.
اما قضية الخاشقجي فهي ولا شك أضعفت الموقع السعودي راهناً على أكثر من صعيد دولي وإقليمي، وطبيعي القول إنّ المنطقة في ظلّ استراتيجية سعودية هجومية عدوانية تغطيها أميركا وأوروبا تغطية كاملة وتوفر لها كلّ مصادر القوة والدعم هي غير المنطقة في ظلّ ضغوطات ألزمت السعودية مؤقتاً للجوء إلى استراتيجية دفاعية هدفها الأوّل الدفاع عن موقع الحاكم سواء كان الملك أو ولي العهد الذي كان يخطط أو يطمح للاستيلاء على العرش في الأشهر القليلة المقبلة.
فإذا جمعنا مفاعيل الأمرين وأسقطناها على ملفات المنطقة الأساسية يمكننا ان نتوقع متغيّرات او تداعيات هامة، خاصة إذا عرف وأحسن الطرف الخصم أو العدو لأميركا والسعودية، انتهاز الفرص واستثمار الظروف، هذا دون ان نغفل إمكانية لجوء معسكر العدوان الى تصرفات فيها منسوب عال من الحمق والوحشية واللاأخلاقية اعمالاً لسياسته المعهودة «الغاية تبرّر الوسيلة»، وعليه نرى إمكانية او احتمال ما يلي:
1 ـ في سورية: سيكون من مصلحة المعسكر المدافع عن سورية أو ما اصطلح على تسميته محور مكافحي الإرهاب والمتشكل من محور المقاومة وروسيا، سيكون من مصلحته انتهاز فرصة انشغال معظم من يعتدون على سورية، بقضية الخاشقجي مع ما أدّت اليه من غبار وتجاذب بين مكونات هذا المعسكر العدواني في بحثه عن تسوية ومخرج من القضية التي أربكته، فمن مصلحة الدفاع عن سورية أن يبادر الى اطلاق عملية تحرير إدلب مستغلاً هذا الانشغال، وهذا ما يخشاه جدياً معسكر العدوان الذي وبسبب خشيته تلك عاد الى تحريك ملف الكيماوي الذي حُجب خلال الشهر الماضي الذي تلا اتفاق سوتشي، والذي ظنّ أنه استبعد العملية العسكرية. وهنا يجب ان تستثمر المتغيّرات التي أحدثت دفاعياً على الميدان السوري انْ لجهة تعزيز الدفاع الجوي، او لجهة تفكيك بعض الجماعات المسلحة او خروج بعضهم من الميدان، او لجهة حجم القوى البرية التي جهّزت لعملية إدلب، فضلا عن النشاط الاستخباري الهامّ الذي فعل فعلاً مشكوراً في منطقة إدلب، فمعركة تحرير إدلب اليوم أفضل بكثير عما كانت عليه قبل شهر. وهنا لا بدّ من لفت النظر إلى أهمية الاستفادة الاستراتيجية التي تجنيها روسيا من إنجاز عملية تحرير إدلب الآن وتوظيفها في مواجهة أميركا في هذا الظرف بالذات، خاصة بعد انسحابها من المعاهدة النووية معها. فتحرير إدلب والتوجه شرقاً كما أعلنت سورية وضوحاً سيضع أميركا وقواعدها العسكرية الـ 13 في مواجهة مباشرة مع الجيش العربي السوري مواجهة لا تستطيع أميركا ان تقدّم تبريراً واحداً لها.
2 ـ في اليمن: قد تكون المرحلة الآن فرصة للسعودية لتخفيف الأعباء التي تثقلها وأن تتخذ قراراً أحادي الجانب بوقف العدوان وتسهيل البحث عن حلّ سياسي ينتجه اليمنيون بأنفسهم برعاية أممية، ولكن قد يكون هناك رأي سعودي معاكس يطلقه بعض المتطرفين المحدودي البصر والبصيرة ويتمثل بالقول انّ تحقيق انتصار في اليمن قد يحدث شيئاً إيجابياً يحدّ من تداعيات قتل الخاشقجي. طبعاً هذا الرأي – انْ ظهر – سيكون تجسيداً للغباء الاستراتيجي المتمادي في السعودية. حيث انّ أحداً في العالم بمن فيهم ترامب – على ما أتصوّر – لن يستطيع أن يدعم السعودية أو يساندها في هذا الوقت بالذات، وبالتالي انّ التشدّد في اليمن سيرتدّ سلباً على المعتدي. ومن جهة أخرى فإنّ روسيا وفي سياق الواقع المستجدّ لن تكون قادرة على ممالأة السعودية في اليمن وذلك خدمة لمصالحها الاستراتيجية التي استجدّت بعد الانسحاب الأميركي من المعاهدة، اما الإمارات العربية الشريك والمنافس للسعودية في اليمن فلا أعتقد أنها صاحبة مصلحة للعمل في اليمن منفردة أو بشراكة مع طرف يكاد يغرق في وحوله. ولذلك نرى انّ الأرجح هو تراجع في العدوان على اليمن فإذا لم يصل إلى حدّ وقف العدوان اليوم فإنه سيؤسّس لذلك في الأشهر المقبلة، خاصة إذا انتهت قضية الخاشقجي بالإطاحة بمحمد بن سليمان وهو أمر غير مستبعد.
3 ـ في العراق ولبنان: يجب ان يستغلّ البلدان الانشغال السعودي الغربي بقضية الخاشقجي وسعي روسيا الى التوازن الاستراتيجي دولياً، وهو استغلال يوظف في تشكيل حكومة لا يكون لأميركا فيها الكلمة الفصل والأمر، وإذا كان العراق نجح في التفلّت من القيد الأميركي المُحكم لدى اختيار الرئاسات الثلاث فعليه الآن استكمال عملية التحرّر أو التلفت من القيود الأميركية في تشكيل الحكومة. أما لبنان الذي عانى من الثقل السعودي المانع من تشكيل الحكومة خلال الأشهر الخمسة المنصرمة فإنّ فرصته سانحة اليوم لتشكيل حكومة تعكس نتائج الانتخابات النيابية التي لم تعط الفريق السعودي حجماً يصل إلى ثلث عديد مجلس النواب.
أستاذ جامعي ـ باحث استراتيجي