سيرة تينيسي ويليامز في إصدار جديد… مأساة العائلة فالمجد المسرحيّ فالانسحاب الإراديّ من الحياة
أصدرت دار «بلومزبري» في 784 صفحة سيرة ذاتية جديدة عن الكاتب المسرحي الأميركي تينيسي وليامز، في مرور أكثر من ثلاثة عقود على غيابه، من تأليف الكاتب والناقد المشهور جون لاهر، الذي سبق أن كتب عن حياة وليامز سيراً عديدة.
يوم عرضت مسرحية ويليامز «التماثيل الزجاجية» عام 1945 رفعت الستارة 24 مرة، وكان الجمهور يطلب في كل مرة رؤية المؤلف. لم يكن الجمهور مدركاً أن هذا الكاتب كان يمتح من ماء بئر طفولته الآسن والأسود، إذ يكشف الكاتب المعارك التي دارت داخل أربعة جدران، وكيف صيّرت تلك المشاحنات الدائمة الطفل توماس كارهاً لواقعه المرير، إذ بدأ يسقي نفسه جرعات رومانسية عن طريق الكتابة التي كانت تعكس كيف كان مطارداً من كوابيس طفولته التي جعلته أسيراً لها. فما كان منه إلاّ أن يقدم على فكّ أسره منها بإنتاج أعمال خالدة بينها «قطة على سطح صفيح ساخن» و»عربة اسمها الرغبة» و»صيف ودخان» و»ليلة الإغوانا»,.. أعمال لا يمكن التوقف عند معانيها مرة واحدة ولا تقتصر دروسها على زمن معين.
يقول مفكرو البنيوية إن ثمة شبكة معقدة من البنى تتوارى خلف النصوص العظيمة التي تشبه قارة تفتتحها قراءات وزوايا نظر مختلفة. هكذا هم الكتاب العظماء، وتينيسي وليامز في مقدمهم، لا ينتهي الجدال حول الجانب الشخصي من إبداعاتهم بموتهم. فهو مثل الشخصيات التوراتية ذات العمر المسرف في الطول، وتهب قارئها أقصى حرية في التأويل.
كتب السير العظيمة هي تلك التي ينفق عليها مؤلفوها زمناً طويلاً لمعرفة الشخصية التي تختبئ وراء أعمالها. وهذا الكتاب عن تينيسي وليامز الذي ولد في مدينة كولومبس في ولاية المسيسيبي عام 1911، وأجبره والده على ترك الدراسة في الجامعة كي يعمل بائع أحذية، لكنّه عاد إلى جامعة أوهايو ليتخرج منها. توفي عام 1983 تاركا وراءه 25 مسرحية وروايتين وقصصاً قصيرة وقصائد شعرية.
ظل كاتب السيرة مبهوراً بأعمال تينيسي درس كامل أرشيفه لسنوات عديدة منذ عام 1999 وتوصل إلى نتائج مهمة وموثقة حول ميلودرامية حياته التي انعكست على مسرحياته، مبيناً أن الكتابة لديه طريقة لتنقية النفس من كدرها وآلامها، فهي ـ أي كتاباته ـ ليست سوى وسيلة لعرض تلك البقع عن طريق الكتابة عمّن تسبّبوا فيها.
أعمال ويليامز وشخوصه لا يمكن التوقف عند معانيها مرة واحدة، ولا تقتصر عِبَرها على زمن معين.
في مقدّمها الأم «مس أدونيا» التي تشبه وحشاً يرمي ناراً على أفراد عائلته قبل افتراسهم، ثم الأب الذي عوّض عن فشله وإحباطاته بمعاقرة الخمرة وممارسة العنف البيتي. هاتان الشخصيتان أنتجتا طبعة مشوّهة من أطفال تعرضت حياتهم للتلف، وهي داخل البيت، فالأخت التي تعلّق تينيسي بها كتعويض عن الأم، مصابة بالشيزوفرينيا والهلوسة، تخضع لعملية جراحية لإزالة ذاك الجزء من الدماغ المسؤول عن ذلك المرض، ثم الأخ ديكن الذي دخل مستشفى الأمراض العقلية، فخفض كرد فعل على الجحيم العائلي حضوره إلى أدنى حدّ، حتى بات مثل حيوان في سبات دائم، أي شخصية سلبية تماما لا تؤدّي أي دور إيجابي. في حين أن الشخصية الوحيدة الذي كان ينبغي أن تعالج نفسياً هي الأم التي دفعت ابنتها إلى عملية إزالة الجانب الأمامي من الدماغ، فهي الطريقة الوحيدة للتخلص من هلوستها وهذياناتها في البيت، ثم تينيسي نفسه الذي كان خائفاً من الرعب الذي مارسته الأم المهووسة بالمذهب الطهوري، والتي منعت زوجها من معاشرتها، ودفعت أطفالها إلى أن يكرهوا الجسد، ما جعل تينيسي يوجّه كراهيته نحو جسده، مهملاً متطلباته العاطفية، حتى أنه لم يمارس العادة السرية حتى سنّ السادسة والعشرين، كي يكتشف أنه مثليّ جنسياً.
نشأ تينيسي عدوانياً ومتقلب المزاج فاتجه نحو المخدرات، ولكي يجعل حياته تستمرّ انغمس في العمل الإبداعي، فكانت أعماله إنتاجاً لهشاشته الشخصية المترافقة مع كآبة حادّة. كان مثل شخص يتغذى على خيباته وأمراضه كي ينتج أعمالاً عظيمة، كأنه لم يكن قادراً على مجابهة عسف أمه إلاّ بالسيطرة عليها والانتقام منها عن طريق تحويلها إلى شخصية مسرحية، حتى أنه حوّل اسمه من توماس إلى تينيسي، ليتخلص من مخلّفات تاريخ ذاك الاسم. أعماله تختصرها العبارة التي كان تينيسي يرددها «القردة سترث الأرض» أي أن المشاكل النفسية تجعل من الفرد عاجزاً على التكيف الناجح، فيغدو أشبه بحيوان عديم الحساسية، وكي لا يصير كذلك عليه ممارسة الكتابة كضرب من العلاج النفسي.
ذاك ما تعالجه مسرحية «تماثيل الوحوش الزجاجية»، وهي قصة عائلة صغيرة تعيش في عالم مغلق في شقة صغيرة أم مكافحة وابنتها العرجاء الخجولة. تدفع الأم بابنها لكي يعثر على عروس لشقيقته. الأم تجسّد شخصية أمه التي تظهر تحت اسم «أماندا» وابنتها شقيقة تينيسي «لورا» العرجاء التي تهرب من عاهتها وواقعها القاسي فتجمع حيوانات زجاجية، لتصبح هي جزءا من تلك الحيوانات.
إلى مسرحيته المشهورة «عربة اسمها الرغبة»، والتركيز فيها على دور الرغبات، خاصة العاطفية، في تقرير مصير المرء الذي يقرّر مصيره الخاص تبعا لمالك العربة، ووجد فيها المخرج الكبير إيليا كازان فتحاً عبقرياً، فحوّلها إلى فيلم يحمل العنوان نفسه، نال عنه جائزة وجلب لمارلون براندو الشهرة.
ثم مسرحية «قطة على سطح صفيح ساخن»، وهي في تعبير مؤلفها عملية لتقطيع أجزاء جسده وعرضها أمام الجمهور، وتعاني شخوصها من اليأس والفشل وغياب القيم، حتى باتت أشبه بقطط تتقافز على سطح ساخن.
في هذه السيرة الذاتية، يكتشف القارئ مصير تينيسي، الذي كان ينشد الراحة من حياة تعِسة يوم وجدوه ميتاً في أحد الفنادق مع لافتة على الباب تقول: «أرجو عدم الإزعاج».