الحريري في المكان الخاطئ والزمن التعيس

د. وفيق إبراهيم

زيارة الرئيس المكلف تشكيل الحكومة الجديدة سعد الحريري الخاطفة الى السعودية يوم أمس لحضور مؤتمر الاستثمار فيها تحمل معاني خاصة به أكثر من علاقتها بلبنان.

فما هكذا يفعل رؤساء الحكومات في أيام صعبة تشهد بلادهم أزمة بنيوية خانقة تمنع تشكيل حكومة منذ ستة أشهر ولن تشكل زيارته الى الرياض انفراجاً يفككُ تعقيداتها.

ولن يكون بوسعه أيضاً الاستفادة من استثمارات أو صفقات ليس لبلاده الوزن الكافي لتحصيلها، فلا وقت لدى السعوديين للتفكير ببلد قليل الأهمية مثل لبنان في مرحلة يتلقى فيها ولي العهد محمد بن سلمان تسديدات ورمي من النوع القاتل من أصدقائه وحماته وعلى مستوى دولي كبير.

مؤتمر الاستثمارات اذاً هو وسيلة الحريري المجازفة على ذوي الأوضاع الصعبة، فإذا نَجَوا يكسب رضاهم على الطريقة القبلية ويصبح «قحطانياً» آخر معتمَداً توكلُ اليه جسام المهام والأمور، وإذا خسروا فإنّ بدلاءهم من آل سعود لن ينسوا مدى ولائه حتى للخاسرين منهم، فيهيلون عليه المكرمات المتقاطعة مع تأييد بلد يبقى وازناً في العالم الإسلامي السني لأنّ أزماته لن تفقده النفط ولا إدارة الحرمين الشريفين.

إنها لعبة «قمار» لكنها رابحة على الجبهتين لأنّ تدفيع الثمن في اغتيال جمال الخاشقجي لن يصيب إلا الطبقة الأمنية السعودية وقد يؤدّي الى استبدال ولي العهد محمد بن سلمان بمحمد بن سلمان آخر، وهذا يعني انّ آل سعود قبيلة سياسية بدأت تضعف وتتراجع، لكن ليس لدى الأميركيين من بديل منها في الوقت الراهن لأداء الأدوار الداخلية والخليجية والعربية والاسلامية.

فاستنباط عائلة حاكمة جديدة لها هذه المواصفات القرون أوسطية متعذر ويحتاج الى مراحل هادئة لاختبارها في الزمن والمراس والتدبّر. وهذا ليس ممكناً في إطار العلاقات الدولية والإقليمية والسعودية المتفجّرة.

يتبيّن بالاستنتاج انّ الشيخ سعد ترك الأزمة الحكومية في بلاده تتخبّط في صراعات قوى الداخل على تقسيم المقاعد والحقائب مفضلاً خطف رجله إلى «بلاده» السعودية في مرحلة تمرّ فيها بأزمة «وجودية» بالنسبة لمحمد بن سلمان شخصياً ومشروعه وإدارته، فيكسب نقاطاً إضافية في سجل «أصدقاء السعودية» يرفعه من درجة المشكوك بولائه نسبياً و»المتفرنس» سياسياً الى مستوى «مسعود» أصيل يرتدي اللباس العربي على نمط ابيه المرحوم الرئيس رفيق الحريري متباهياً بشمائله وتاريخيته لتأمين وضعية سياسية دائمة له عند آل سعود بمحمد بن سلمان او بشبيه له، وهو على استعداد للتماثل السياسي والقبلي معهم حتى لو استلزم الأمر أن يرتدي اللباس العربي التقليدي بشكل دائم ليكسب إعجاب الأمراء من هذا اللبناني الذي يحمل بفخر جنسية سعودية ويمارس دور رئيس وزراء لبنان بتوكيل منهم.

لكن ما أساء إلى هذه الزيارة الرشيقة والخاطفة إصرار وكالة «رويترز» البريطانية وفي هذا الوقت بالذات على كشف الجانب الغامض من اعتقال سعد الحريري في السعودية في مرحلة سابقة، فسارعت إلى الكشف عن تفاصيل اعتقاله في المملكة وملابساته المهينة، وأوضحت هذه الوكالة البريطانية ذات المدى العالمي الواسع أنّ القحطاني مستشار ولي العهد إبن سلمان هو الذي استقبل قبل أشهر عدة الشيخ سعد في غرفة صغيرة في مقرّه في الرياض وكان معه نفرٌ من معاونيه أمرهم فوراً بإهانة الحريري ودفعه الى الحائط وتسديد ضربات قاسية على وجهه وجسده، وانتزاع ساعته وهاتفه وقاموا بعد ذلك بالسماح له بتعديل هندامه وتسريح شعره وأجلسوه على طاولة وأرغموه على قراءة بيان يعلن فيه استقالته وبالتالي استقالة حكومة لبنان.

لماذا تعمّدت «رويترز» نشر هذه الإهانات الآن بالذات؟

من المؤكد أنها تريد المزيد من دعم الروايات الاميركية السعودية حول انّ القحطاني مستشار ولي العهد هو الرابط بين الجناح الأمني السعودي والطبقة السياسية وقد يكون ما حدث نتيجة شطحاته ومن دون أوامر عليا فعلية وهذا يؤدّي فوراً الى تبرئة آل سعود وحصر التهمة «بمارقين أمنيين» يمارسون القتل والخطف منذ مدة، ولا يستأذنون قيادتهم السياسية بذلك، من بين هؤلاء الضحايا سعد الحريري الذي كاد أن يلقى نفس مصير الخاشقجي لولا ضغط الرئيس الفرنسي ماكرون الذي هدّد القيادة السعودية بتطوير موقف كبير معاد لها، بالإضافة الى القيادات السياسية اللبنانية التي أعلنت مواقف مشابهة.

قد يكون الحريري مصيباً بتحليلاته حول العلاقة بين زيارته الخاطفة وكسب تأييد آل سعود بمختلف أجنحتهم، لكنه يخطئ بحق بلده لبنان الذي تعرّض لإهانات من نشر «رويترز» لحادثته القديمة وليس لدى السعوديين حالياً مخارج لأزمة تشكيل حكومة لبنان لأنهم مأزومون يحاولون الفرار من أعنف أزمة تدكّ نظامهم منذ 1945، وهي مسألة اغتيال الخاشقجي، لذلك فالمعتقد أن لا قدرة ذهنية وسياسية لولي العهد حتى لمجرد الاستماع لرواية الحريري حول الأسباب التي تحول دون تشكيل حكومة لبنانية جديدة، بذلك يتضح انّ الحريري لن يجرؤ على الطلب من آل سعود إقناع القوات اللبنانية حليفتهم التي أصبحت الأكثر اعتماداً لديهم بالتنازل عن قسم من مطالبها ويعجز أيضاً عن طلب اسناد اضافي له.

ما يعني انّ تشكيل حكومة لبنان ليس ضمن أهداف زيارة الحريري الذي اختار زمناً تعيساً ومكاناً خاطئاً لمعالجة مشاكله الحكومية، بيد انه انتقى المكان الملائم للتعبير عن ولاءاته الإقليمية التي بوسعها دعمه ليبقى زعيماً للسنة اللبنانيين، وبالتالي رئيساً لكلّ الحكومات المقبلة.

وهناك مَن يعتقد انّ الحريري لبّى هذه الزيارة بطلب من مكتب ولي العهد مباشرة وذلك لتأمين حشد رسمي عربي في مؤتمر الاستثمارات بما يؤكد انّ السعودية لا تزال تحتفظ بأهمّ موقع رئيسي وأساسي في العالم العربي لا يمكن الاستغناء عنه من قبل الأميركيين والغرب.

المهم أنّ الحريري عائدٌ باعتمادية سعودية أكبر له شخصياً لكن حكومة لبنان تبقى رهن عقد مستعصية وانتظار لمآلات الحصار الأميركي لإيران وحزب الله. هذا الانتظار الذي قد يطول كثيراً ولن يؤثر الا على لبنان وبعض الساذجين الحالمين بدور أجنبي يمهّد لهم زعامهتم الداخلية.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى