وداعاً أيها الفؤاد الخافق بالوفاء
جوزف قصيفي
رقد فؤاد أبي صالح بهدؤ، وانسحب من دائرة الحياة إلى الظلّ بخفة الفراشة، حيياً، بعدما ملأ دنياه عطاء بانياً عكس ثقافته الشمولية، وعقله الراجح، وحسّه الإنساني المرهف، وزهده بالمادة، مكتفياً بما قسمه الله، وما أسبغه عليه من نعم طبعت شخصه المتواضع، وانسحبت على سلوكياته في عمله اليومي، وأسلوب تعاطيه مع الناس. لم تغره المناصب، ولم تسكره الأضواء، او تصرفه مخالطة الكبار من أصحاب القرار، عن الاندماج في المجتمع، وتقصّي ما يفتك به من علل. فراح يجترح الحلول -عندما فتكت الحرب بالوطن الذي أحب – ويسعى لاستنقاذ قطاع الصناعة عندما تهاوى بفعل الحرب والأعمال العسكرية، واضعاً الخطط التي تنمّ عن عبقرية قلّ ان توافرت في شخص زاده العلم والأخلاق، والاستشراف، وإحاطة نادراً ما أوتيت لفرد لم يرث إلا عصامية تكللت بالاجتهاد وعرق الجبين، ومركوزة في سعة أفق، هي سمة الكبار. جمع اتضاع البنفسجة الى أريجها الذاكي الذي يتسلل الى القلوب قبل الأنوف.
كفاه كثلج صنين، جبينه شمخة أرز في راسيات القمم. كان لبنان أغنية على لسانه، وخفقة تغشى منه الفؤاد، لا يخشى في الحق لومة لائم، وغالباً ما كان يصدح به ولو في حضرة أعتى السلاطين جوراً.
أدركه المرض فقاومه بإرادة الحياة، وأصابه الدهر ممتحناً صلابته عندما اختطفت يد المنون فلذة كبده الشاب، وكان طبيباً واعداً، فكان الوقع قاسياً، لكنه لاذ برحمة ربه، بعدما خط بدمعه إزاء هذه المصيبة البكماء: «يبكي بعضي على بعضي معي».
زاده الحزن انطواء، واستسلم لأوجاعه بصبر أيوب.
رجل التصميم صمّم أن يكون الهزيع الأخير من حياته مناجاة صامتة مع ربه، واتحاداً إرادياً مع آلام يسوع، مجتازاً جلجلته الأرضية، منطلقاً الى الآب السماوي، ملاقياً وجهه، معانقاً نجله بعدما استبدّت به برحاء الشوق إليه.
في يوم رحيلك للرقاد الأخير في بلدتك البترونية التي تحتضنك تربتها الندية ذات يوم تشريني باك، تفتقدك الإدارة اللبنانية فارساً من فرسانها المجلين، والصناعة علماً من أعلامها البارزين، ولبنان واحداً من جنوده البواسل، هاتفاً بحسرة وألم: هذا ابني الحبيب الذي به سررت. فنم قرير العين يا مجبول الثرى، وليكن مثواك في جوار الصالحين الذين أطفأوا شمعة العمر على مذبح وطن تملأ ذاكرته الثقوب والجحود.
وداعاً أيها الفؤاد الخافق بالوفاء في زمن عزّ فيه الأوفياء، وداعاً أيها الفؤاد الباكي…
أمين سرّ نقابة المحرّرين