ماذا يريد ترامب من لبنان الآن؟
د. وفيق إبراهيم
العقوبات الأميركية التي أعلنها مجلس الشيوخ الأميركي منذ أكثر من شهرين على حزب الله اللبناني أصبحت سارية المفعول والتنفيذ بعد توقيع الرئيس الأميركي ترامب عليها يوم أمس.
فهل هذه عقوبات أممية تُلزم كلّ الدول؟ ولا يستطيع لبنان رفضها؟
هذه عقوبات صادرة من دولة واحدة بمفردها ولا قيمة إذاً لها على مستوى القانون الدولي والتفاعلات بين البلدان ويستطيع لبنان «نظرياً» أن لا يقبل بها.
أما عملياً فهي عقوبات صادرة من أهمّ دولة في العالم على الصعد الاقتصادية والعسكرية وتتمتّع بمدى تحالفي واسع جداً يطبّقُ تعليماتها ويمتدّ من أميركا الشمالية والجنوبية فالاتحاد الأوروبي واوستراليا وبعض بلدان الخليج والشرق الاوسط واليابان وجنوب شرق آسيا والعالم الإسلامي وهذه ليست دعوة للاستسلام، لكنها تريد إظهار مدى خطورة العقوبات في حالة التزم حلفاء أميركا بها.
في المقابل تنبثق حقيقة مضادة ترى أن لا علاقة تفاعلية لحزب الله مع هذا المدى الأميركي الواسع والمعولم في كامل الجوانب الاقتصادية والعسكرية والثقافية، لذلك فإن احتمال إصابته بأذى منها وهمي وهو افتراضي لا يرتكز على معطيات حقيقية.
فهل تجهل الإدارة الأميركية هذه المعطيات الواضحة جداً؟ إنّها تعرف كل شيء وتعلم أن حزب الله مؤسسة جهادية تمكّنت في المراحل الماضية وبالتراكم من دعم مؤسسات اقتصادية ذات طبيعة إنتاجية وفي أكثر من بلد بينها لبنان يستطيع الاعتماد عليها في الايام الصعبة.
كما أن للحزب إسناداً شعبياً يدعمه «مادياً» انما على قدر إمكاناته المتواضعة التي تلبي بعض حاجاته.
المفروض اذاً اعادة التمعن في هذه العقوبات لتحديد الجهة المستهدفة بشكل أدق ويتبين فوراً أنها عقوبات اجتماعية وسياسية ومالية ومصرفية وإعلامية وتحالفية وعسكرية وخدمية على مستوى الداخل والنقل الجوي والاتصال البري وحركة الاستيراد والتصدير. وهذه القطاعات تشمل الحركة بين ثلاثة أرباع اللبنانيين من كل الطوائف والمذاهب وعلى كل المستويات ولا تصيب حزب الله بشكل مؤذٍ لا يمكن ترميمه.
المُستهدَف اذاً هو لبنان ولبنانيوه، فإما ان ينسجم مع العقوبات الأميركية على قاعدة بناء تحالفات بينه وبين المحور الأميركي السعودي الإسرائيلي وصداهما الداخلي المحلي أو يرفضها، فيقع اقتصادياً وينهار بالتالي اجتماعياً وسياسياً تمهيداً لحرب إسرائيلية عليه يجري تنسيقها مع بعض أطراف الداخل كما حدث في اجتياح 1982 يوم دخلت الدبابات الإسرائيلية بيروت وعلى متنها قادة ميليشيات لبنانية أصبحوا اليوم قادة لأحزاب سياسية من المؤسف أنها تشارك في السلطة في الوقت الحالي.
إن اختيار التوقيت الحالي للبدء بتنفيذ العقوبات الأميركية على حزب الله يبدو أن له علاقة بنوعين من الأحداث: أزمة السعودية وتشكيل الحكومة اللبنانية المرتقب بين يوم وآخر، وكما يرتبط ببدء سريان المرحلة الثانية من العقوبات الأميركية على إيران في السادس من تشرين الثاني المقبل. وهي عقوبات يعتقد الأميركيون وتحالفاتهم العربية والإسرائيلية انها تؤدي الى تفكك إيران وسقوط جمهوريتها الاسلامية مع ما يعنيه هذا الامر من انهيار تحالفاتها مع حوثيين في اليمن والحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان والمقاومة في فلسطين.
ماذا عن العلاقة بين ازمة السعودية ولبنان؟ لا ينكر أحد وجود ارتباط عميق بين آل سعود وأحزاب المستقبل والقوات اللبنانية والاشتراكي وكثير من الجهات الإعلامية والدينية والسياسية وهي التي تشكل النفوذ السعودي في لبنان وتسمح بالإمساك التاريخي لحكومات لبنان الموالية للرياض في معظم الاوقات.
لقد أصيبت هذه القوى بتراجع في قوتها في الانتخابات النيابية الأخيرة ما انعكس على قوتها السياسية وجاء اتهام ولي العهد محمد بن سلمان باغتيال الصحافي جمال الخاشقجي في القنصلية السعودية في تركيا ليزيد ازمات هذه القوى المحلية، متسبباً لها بالمزيد من التراجعات في الداخل اللبناني مع إرباكات عميقة في العلاقات السياسية. فما عاد بمقدور الرئيس المكلف تشكيل الحكومة سعد الحريري الاحتماء بدولة سعودية هي عرضة لاتهامات من حلفائها الدوليين والإقليميين باغتيال الخاشقجي. هذا الاغتيال الذي يصيب ايضاً الأميركيين ودورهم السياسي في المنطقة.
فمحمد بن سلمان حليف كبير دعمه ترامب في انقلابه على عمومته لينتزع منهم ولاية العهد، منهياً نظام وراثة الملك بين أشقاء كالعادة ومؤسساً لملكية سليمانية تنتقل من أب إلى ابنه وما كان هذا الأمر ليحدث لولا دعم ترامب له مقابل صفقات بين الرياض وواشنطن زادت عن الـ 500 مليار دولار،
لكن ولي العهد الجديد أثار خيبة أميركية إضافية منه بفشله في سورية والعراق ولبنان واليمن وجاء اغتياله للخاشقجي ليضعف الموقع السعودي داخلياً وإقليمياً.
لبنان واحد من هذه المواقع التي تراجع فيه الدور السعودي وبالتالي الأميركي، ويمر في مرحلة تشكيل حكومة جديدة يجب أن تجسد حالتين: انتخاباته الأخيرة التي سجل فيها حزب الله وتحالفاته تقدماً كبيراً في مستويات التمثيل النيابية وتراجع الدور السعودي فيها، فما كان من البيت الابيض الا ان سارع الى توقيع العقوبات الآن ليجعلها سارية المفعول قبل تشكيل الحكومة في محاولة واضحة وفاضحة لتأجيج الخلافات اللبنانية الداخلية واعادة تعويم حلفائه المحبطين من تراجع الدور السعودي. فهل هي مصادفة أن يعود الشيخ سعد من زيارته الأخيرة الى السعودية بالتزامن مع توقيع ترامب للعقوبات الأميركية على حزب الله؟ وهل استعجال الحريري السفر الى السعودية لتغطية محمد بن سلمان في جريمة اغتياله للخاشقجي هي نخوة على طريقة البدوية أم عمل منسق بين السياسات الحريرية والسعودية والأميركية؟
ما يمكن استنتاجه أن إصدار العقوبات في الوقت الحاضر أولاً يرتبط بسياسات أميركية تعتبر أن حزب الله حليف لإيران بإمكانه السيطرة على أي حكومة لبنانية جديدة في مناخ متراجع سعودياً، لذلك فإن العقوبات قد لا تمنعه من المشاركة في الحكومة المرتقبة إنما بقياس عادي لا صفة المراقب، ولا يمنع تمثل الحلف الأميركي السعودي الإسرائيلي بالعديد من الوزراء مع حقائب نوعية.
فهل هذا ممكن؟ خصوصاً أن العقوبات على إيران لم تعد بعيدة.
هذا هو الهدف الأميركي الحقيقي لكن القدرة على تنفيذه ترتبط بنجاح العقوبات على حزب الله في حين أن كل التقديرات تؤكد أن تطبيقها يؤذي كل اللبنانيين ما عدا حزب الله غير المتفاعل اساساً مع عالم الاقتصاد والمال الداخليين.
أما مسألة العقوبات على إيران فهي فاشلة قبل أن تبدأ بالاضافة الى أن ضررها على لبنان ضئيل لمحدودية العلاقات الاقتصادية بين البلدين.
وهذا قد يعيد الرشد الى الشيخ سعد وبعض المتهورين في السعودية ولبنان على قاعدة ان لا حكومة تمر من دون موافقة الرئيس ميشال عون وحزب الله وحلفائه، وإلا فإننا مقبلون على حكومة تعكس الاحجام الحقيقية للقوى.