كتاب مفتوح إلى رئيس الجمهورية
د. عدنان منصور
فخامة الرئيس…
تردّدت طويلاً قبل أن أتوجه إلى فخامتكم بكتابي هذا. لكنني وكمواطن لبناني حر، وجدت نفسي أنه من واجبي أن أعبّر لكم عما يجيش في صدري وفي صدر كلّ لبناني أبيّ شريف، علّق عليكم الآمال الكبار، قبل وبُعيد انتخابكم رئيساً للجمهورية، نظراً لما ناديتم به، وحملتموه من شعارات الإصلاح والتغيير على مدى سنوات، وأطلقتموه من عناوين وطنية، أثلجت قلوب اللبنانيين المتعطشين دوماً إلى دولة العدل والقانون والمساواة، والإنماء المتوازن والتنمية المستدامة. عناوين ولا شك، رأى فيها اللبناني خشبة الخلاص، وهو يحلم منذ فجر الاستقلال، ببلد تسود فيه فعلاً لا قولاً، سلطة القانون، والعدالة والنزاهة، ونظافة كفّ المسؤولين، وحرية الإنسان وكرامته.
اليوم وبعد مرور عامين على رئاستكم للجمهورية، وانقضاء ثلث مدة ولايتكم، نتساءل ويتساءل معنا المواطنون الشرفاء، عما حققته الدولة للوطن والمواطن، لجهة يومه وغده وعمله ومعيشته ورخائه وصون كرامته؟!
كيف يمكن للمواطن اليوم أن يقتنع ويصدّق، أنّ البلد ينطلق ويزدهر على يد من يمارسون ترف السياسة في الداخل، وقصورهم وأموالهم ويخوتهم وطائراتهم ومصارفهم وشركاتهم وعقاراتهم في الخارج؟!
من أين لهم كلّ هذا؟! وأين تطبيق قاعدة الإثراء غير المشروع والمحاكمة العادلة للمفسدين؟! وما هي الإنجازات العظيمة التي حققتها الطبقة السياسية وهي تُغدق عليه يومياً الوعود الزائفة، والبرامج النظرية التي تفتقر إلى الحدّ الأدنى من الصدقية والشفافية والجدية في التطبيق.
كيف يمكن لدولة لا تستطيع أن تطبّق حكم القانون، وتسترجع مالها المنهوب من اللصوص الذين تعرفهم جيداً، ويعرفهم كلّ لبناني نزيه، ثم تذهب بعد ذلك إلى فرض المزيد من الضرائب، لتسدّ عجزها على حساب الفقراء والمسحوقين، وتلجأ إلى المنتديات الخاصة لطلب المساعدات المالية من المحسنين الدوليين؟!
كيف يمكن لبلد أن ينهض ويحقق الإصلاح، ويُحدث التغيير المنشود وقوافل المحبطين البائسين، اليائسين، تنتظر في صفوف طويلة أمام السفارات، تستجدي تأشيرة لمغادرة الوطن نهائياً، وصوت نقمتهم المدوّي يصبّ على مسؤوليه، حيث يرون بأمّ العين كيف يهمّش في وطنهم العالِم، ويكافأ الفاشل، ويبجّل الفاجر، ويُظرّف السارق، ويُقرّب الجاهل، ويُرقّى ذوو الحظوظ، ويُبعد أصحاب العقول، ويسرح ويمرح على أرضه الفاسدون والمرتشون. وماذا لو أنّ سفارات لدول ثلاث في العالم، يا فخامة الرئيس، فتحت أبواب الهجرة للبنانيين إليها، كم سيبقى منهم في الوطن باحثاً عن مرقد عنزة؟!
أيّ صورة هي صورة البلد في العالم، حيث القانون فيه مستباح، والمسؤول فوق القانون، لا يبالي بالدستور وبالمؤسّسات وبأجهزة الرقابة وبالقضاء، لا يستطيع أحد مساءلته أو محاسبته، وهو إنْ خضع للتحقيق والتوقيف، اهتزت طائفته، وإذا أُحيل للمحاكمة ثارت طائفته وسياسيوها، معتبرين الطائفة معنية بالأمر وبالمحاكمة وأنها المستهدفة بهذا التوقيف…
وأيّ صورة تلك الصورة التي يعطيها المسؤولون عن لبنان، عندما يلتقون نظراءهم في بلدان العالم، المطّلعين جيداً على مدى الفساد في بلدنا، والتحلّل الحاصل في مؤسسات الدولة، وتنافس السياسيين على المغانم والمناصب والحقائب والامتيازات والصفقات، وأيّ احترام هو هذا الذي يكنّه مسؤولو الدول لبلدنا ومسؤوليه وهم يعرفون حقيقة الأوضاع فيه ومستوى السلوك المهني والوطني والأخلاقي للطبقة السياسية التي تديره.
فخامة الرئيس..
تعرفون فخامتكم جيداً، أنّ الدولة سلطة، والسلطة قوة، والقوة هيبة، والهيبة يحصّنها القانون، والقانون يجسّد العدل، وعندما يُعبث بالقانون ويُخرق ولا يُحترم، يختلّ ميزان العدالة، ولا يعود هناك من دولة ولا قانون ولا سلطة ولا هيبة.
كيف يمكن لبلد أن ينهض ويقوى ويحقق الإنجازات، ومنطق التراضي هو السائد والسيد والعرف في بلد منكوب غارق بالديون؟! فالصفقات تتمّ بالتراضي، ومعالجة أزمة النفايات ومكبّاتها بالتراضي، وتوزيع الحصص بالتراضي، ونهب المال العام بالتراضي، وحماية سارقي أموال الشعب بالتراضي، ومعالجة المشاكل البيئية المتفاقمة تخضع للتراضي، والتي لا يعرف أحد بعد سنوات من المعاناة اليومية متى تُنجز، حيث التلوّث والنفايات والروائح الكريهة والمحارق تفتك بالمواطنين والتي جعلت من لبنان، حسب تقرير منظمة الصحة العالمية، في المرتبة الأولى في عدد الإصابات بالسرطان بين دول غربي آسيا، قياساً بعدد السكان، ناهيكم عن ملفات الكهرباء، والمياه، والنفايات، ومياه الصرف الصحي، وتلوّث الشواطئ والأنهار، وتلزيماتها لأشخاص معيّنين محظوظين، والمناقصات المشبوهة مفصّلة على قياس المستفيدين. ومن يوقف الصفقات المفضوحة والسرقات الموصوفة والاختلاسات المظرّفة بكلمة هدر؟! ومن يحاسب الفاسدين والمفسدين ومن هو المسؤول عن كلّ ذلك؟!
كيف يمكن للمواطن اللبناني أن يصدّق وعود المسؤولين المعسولة ويكترث لتصريحاتهم الجوفاء، وهو الذي ما زال يعاني الأمرّين منذ عقود، من أزمة كهرباء وصفقاتها، ومنافعها، ودهاليزها وسماسرتها ومقاوليها، وأزمة مياه في بلد المياه التي تُهدر على رؤوس العطاش، ونفايات تبث رائحتها الكريهة في كلّ مكان، لا تلقى إلا اللامبالاة من أصحاب الشأن، ومرضى يائسين مسحوقين يلقون حتفهم على أبواب المستشفيات، وخوّات ومافيات مبرمجة بالتوافق والتراضي، تحتكر المولدات، والبنزين، والشواطئ والأنهر والكسارات والوكالات الحصرية وتجارة الدواء، وشبكات من تجار المخدرات ومروّجيها تفتك بالإنسان اللبناني على نطاق واسع؟!
وهل من ملف واحد بين عشرات الملفات، أخذ القانون حياله مجراه الطبيعي، دون تدخل من هنا وهناك من أباطرة السياسة والنفوذ في البلد، وهو وإنْ أخذ مجراه الملتوي، يخرج الفاسد واللص بريئاً، ثم يُنعت الشاكون الباحثون عن العدالة بالمغرضين والكيديّين المتحاملين؟!
كيف يمكن لدولة أن تحافظ على هيبتها وسلطتها وهي عاجزة عن وضع حدّ لأصحاب النفوذ في المؤسسات، والقطاعات العامة العديدة، الذين يعبثون بكرامات الناس وأرزاقهم وحياتهم وسلامتهم، وهم يتحدّون السلطة علناً، لأنهم يعرفون جيداً أنّ يدها مغلولة مشلولة، لا حول لها ولا قوة، وهي إنْ تحركت وجدت نفسها مقيّدة بطوائف السياسيين وبسياسيّي الطوائف؟!
هل سمع اللبناني الشريف يا فخامة الرئيس مسؤولاً ولو لمرة واحدة، يجرؤ على قول الحقيقة ويعترف بفشله أو بخطئه، دون أن يتهرّب من الحقيقة المرّة، ويحمّل المسؤولية للآخرين، فيتبادل اتهامات التقصير معهم، ثم يتبارون في تبادل الاتهامات في سوق عكاظ سياسي مبتذل، وإنْ كانوا كلهم في اتهاماتهم لبعضهم البعض يقولون الحقيقة، حيث يبقى الفساد بعد ذلك يتربع على رؤوس المواطنين، ويعبث بكرامتهم وطموحهم ومعيشتهم ومستقبلهم.
وبأيّ إطلالة تطلّ الدولة اللبنانية يا فخامة الرئيس على العالم، عندما تنشر مؤسسة Heritage Foundation الأميركية في شهر آب 2018، لائحة الدول العشر، الأكثر فساداً في العالم التي تتمتع بأدنى درجات النزاهة الحكومية، حيث احتلّ لبنان وللأسف المرتبة الثامنة في اللائحة، وبعد ذلك نصنّف بكلّ غرور وعنجهية فارغة بلدنا على أنه «سويسرا الشرق»؟!
لماذا تعجز الدولة عن استرداد أموالها المنهوبة المسروقة في قطاعات عديدة؟! وأين محاسبة المسؤولين عن الثلاثة مليارات دولار مجموع الهبات التي صُرفت في سنوات خلت، دون إجازة الحكومة ودون تسجيلها في القيود الرسمية، وإلى مَن ذهبت هذه الهبات؟! وأين الثلاثة مليارات ونصف المليار دولار، قيمة السلفات التي لم تُستردّ؟! وأين مصير الهِبات بمئات الملايين من الدولارات التي قُبضت من دون صدور مراسيم بشأنها، كما تقتضيه القوانين والأنظمة المرعية؟! ومَن يحاكم سارقي أموال الشعب ليقول لهم اللبنانيون وبصوتٍ عالٍ: إبراؤكم مستحيل، وأنّ في لبنان دولة وسلطة وقانوناً وعدالة؟!
فخامة الرئيس..
ما يريده الإنسان الشريف في بلدنا، هو أن تكون الفترة المتبقية من عهدكم، فترة إصلاح حقيقي وتغيير جذري… فالآمال المعلّقة على فخامتكم كبيرة وكبيرة جداً، حتى يكون عهدكم علامة فارقة مشرقة في تاريخ لبنان، تعطي الأمل من جديد لأبنائه، بعد أن كفر اللبناني بكلّ ما يحيط به من سماسرة ومقاولين سياسيين، وحاشيتهم وزبانيتهم… فأعيدوا إليه يا فخامة الرئيس إيمانه القوي ببلده، وعززوا حضوره ودوره فيه، حتى لا يرتدّ رغماً عنه يأساً وبؤساً، عندما يرى نفسه فيه غريباً، دخيلاً، مغبوناً، محروماً، مظلوماً، منبوذاً، وأنقذوا الوطن من الضياع قبل فوات الأوان، وقبل أن تجتاحه ثورة الجياع.
وزير الخارجية السابق