تركيا: تطهير القطاع الطبّي وتشجيع التديّن في الجيش
د. هدى رزق
اقترح حزب العدالة والتنمية التركي مشروع قانون شامل يحتوي على فقرة تؤيد إقالة الآلاف من الأطباء والممرّضات الذين فقدوا وظائفهم أثناء عملية التطهير بعد انقلاب عام 2016. وافق المشرّعون من حزب العدالة والتنمية وحلفاؤهم في حزب الحركة القومية على الاقتراح من دون الأخذ برأي المعارضة التي رأت بأنها عملية غير منطقية. وتشير المعلومات الى انّ ما مجموعه 3،383 طبيب قد تلقوا رسائل أثناء عملية التطهير تتهم الأطباء بالإرهاب وكتب عليها ربما تكون عضواً في منظمة إرهابية . يحاول رجب طيب أردوغان تطهير كلّ المؤسسات التركية من جماعة محمد فتح الله غولن على مراحل. لكن من الصعب جداً أن يتمّ الأمر بالسهولة المفترضة، لأنّ غولن عمل على تدعيم المدارس منذ نهاية السبعينيات وساعد قسماً كبيراً من الطلاب الأتراك للحصول على منح من أهمّ الجامعات في الداخل التركي وخارجه وذلك بفضل دعم المتموّلين من تجار الأناضول.
التهديدات التي تلقاها الأطباء شبيهة بتلك التي تلقاها أكثر من 100 ألف موظف حكومي، الرسائل لا تحمل اسم أيّ منظمة إرهابية يتهمون بالانتماء اليها ولا تقدّم أيّ دليل على هذه العضوية. بل هي مجرد تقرير استخباري. القليل من موظفي الخدمة العامة تمكّنوا من استعادة وظائفهم بعد ما قدّموا التماسات لإثبات براءاتهم من الانتماء الى جماعة غولن. ففي كلّ يوم تضجّ وسائل الإعلام التركية بالقبض على عسكريين او محامين او موظفين بتهم الانتماء الى جماعة الخدمة.
تمّ إلغاء جوازات سفر عدد كبير من الأطباء المفصولين اما البعض الآخر منهم الذي يرغب في العمل في الخارج أو السفر إلى المؤتمرات الطبية فقد صودرت جوازات سفره في المطار.
أما الأكثر تضرّراً فهم 1417 من الأطباء الشباب الذين تلقوا هذه الرسائل بعد التخرّج بوقت قصير. وبذلك تمّ حرمانهم من أداء الخدمة الإلزامية في المستشفيات، كذلك قامت الحكومة باحتجاز شهاداتهم الطبية.
طال هذا التطهير الممرّضات والمساعدين الطبيّين، وبلغ العدد الإجمالي للعاملين في القطاع الطبي الذين تمّ إخراجهم من العمل نحو 7500. يتوقع أن يقرّ البرلمان مشروع القانون، لكن الجمعية الطبية التركية قالت إنها سوف تستأنف أمام المحكمة الدستورية، وإذا لزم الأمر، أمام المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان. غير أنها حذرت من أنّ اتخاذ قرار إيجابي من المحكمة في ستراسبورغ «قد يستغرق أربع سنوات».
قد تكون هذه إحدى المشاكل التي لحقت بكثير من الموظفين الأتراك بعد انقلاب 2016 الفاشل إلا انّ المشاكل طالت القطاع العسكري، حيث تحاول القوات المسلحة التركية المعروفة بأنها كانت «حارس العلمانية» والتي امتازت بطابعها العلماني التزام مبدأ وجوب إبقاء الجيش بعيداً عن الإسلام السياسي، ووجوب ان تكون الوحدات العسكرية خالية من النزاعات الدينية.
كان المجنّدون الذين يقومون بالخدمة العسكرية الإلزامية يخدمون كأئمة ومؤذنين في المساجد عبر مرافق الوحدات العسكرية مهما كانت كبيرة ومزدحمة، وكان لديها تقليدياً مسجد واحد أو قاعة للصلاة لتسهيل الإشراف على تحقيق توازن بين الحرية الدينية والتحرر من الدين. بعد انقلاب 1980 تمّ التخلي عن وجود ضباط محترفين يعملون كأئمة. وفي الفترة الواقعة بين عام 1997 وعام 1998 قام كبار القادة العسكريين بحملة علمانية قاسية لإجبار رئيس الوزراء الاسلامي نجم الدين أربكان آنذاك على الاستقالة، وتطهير الضباط الذين قاموا بتدريس دورات في الدين في المدارس العسكرية وهم من متخرّجي المدارس الدينية الإسلامية «إمام خطيب».
لكن بعد الانقلاب الفاشل عام 2016، تمّ وضع أكاديميات الحرب في إطار «جامعة الدفاع الوطني» التي تمّ تأسيسها حديثاً، والتي يسيطر عليها المسؤولون المعيّنون من قبل حكومة حزب العدالة والتنمية. ونتيجة لذلك، أصبحت المساجد وغرف الصلاة محلّ تنافس. وازداد عدد المسلمين المتديّنين بين الطلاب العسكريين الجدد. وقد حظيت القضية بالاهتمام العام الماضي، وسط شكاوى من أنّ المسجد الوحيد في أكاديمية الحرب العسكرية وهو مؤسسة قوامها 3000 شخص قد أصبحت غير كافية، وخاصة في أيام الجمعة، وقدّمت مقترحات لفتح غرف للصلاة في كلّ كتيبة، بالإضافة إلى المسجد الرئيسي.
ثمة اسئلة أقلقت المعارضة التركية العلمانية حول المدى الذي يمكن أن تذهب إليه مثل هذه المطالب وتأثيرها المحتمل على الانضباط العسكري. هل سيطلب الطلاب بعد ذلك غرفاً للصلاة في مناطق أخرى مثل المهاجع والمقاهي وأماكن التدريب؟ هذا سيتطلب أعداداً كبيرة من غرف الصلاة في أكاديمية الحرب العسكرية وهل يمكن ان تكون كافية للحفاظ على التوازن الحساس بين الانضباط الوظيفي للمدرسة واحتياجات عبادات الطلاب الذين يمارسون الصلاة؟
يتنازع الطلابُ في أكاديمية الحرب في أنقرة حول أفضلية إقامة الصلاة الجمعة في مسجد المدرسة وعندما وصلت القضية إلى هيئة الأركان العامة، ومن ثم الى الرئيس رجب طيب أردوغان استنكرت وزارة الدفاع الوطني الأمر ومع ذلك يبقى الجدل حول كيفية حفاظ القوات المسلحة التركية على طابعها العلماني التقليدي مع السماح لمزيد من الحرية الدينية ومن هم الذين يحق لهم حمل لقب إمام في مساجد القوات المسلحة.
يرى العلمانيون أنّ علاقة الجيش بالإسلام ليست مجرد قضية عسكرية ـ بل هي تحمل بعداً ثقافياً اجتماعياً يحدّد توجهاً اجتماعياً يؤثر في الحياة المدنية. وبالتالي يقلقون من أثر تخلي الجيش التركي عن إدراكه التقليدي للعلمانية، ويعتقدون أنّ الأمة يمكن ان تتبعه. ربما يخشى العلمانيون من تقليد النموذج الباكستاني حيث تحوّل الجيش الباكستاني الى النموذج الاسلامي والتديّن مع قيادة محمد ضياء الحق، والى التسييس اللاحق للتأثيرات الدينية وهي عملية معروفة أدّت إلى مشاكل مختلفة وتآكل معايير الأخلاقيات المهنية والعسكرية لهذا الجيش.
تحتاج النخب المدنية والعسكرية التركية إلى تحديد ما إذا كان ينبغي أن تستمرّ الفجوة بين الطريقة التي ينظر بها المجتمع والجيش إلى العلمانية. هل يجب أن يكون مفهوم الجيش للعلمانية أكثر صرامة، أم يجب أن يكون الجيش مرآة مباشرة للمتديّنين الاتراك؟ وهل الأمة التركية هي أمة علمانية أم متديّنة؟ ام أنها تجمع الاثنتين؟