في معنى «الممانعة»… جبهة ساخنة في حرب المفاهيم
عبد الفتاح نعوم
حينما تشارف الحرب الدائرة على سورية بجميع معانيها وتمظهراتها، وحينما يصبح الاستسهال المقرون بالتسطيح أسلوباً رائجاً في معالجة مختلف القضايا والمفاهيم في الإعلام، يصبح لزاماً أيضاً الوقوف على تلك المفردات والتعابير لتبسيط فهمها لا تبسيطها هي. فمنذ أن تحوّلت مطالب الإصلاح والتغيير المشروعة إلى رأسمال مرهون لحسابات جيوبوليتيكة صرفة، تمّ «تخييل» وعي الناس ليغدو شعار مثل «الممانعة» مجرد سخافة وكلاماً فارغاً يغطي به «نظام الحكم» في سورية على «جرائمه» و»عمالته» وعدم رغبته في النظر في المطالب العادلة للسوريين أو «قدرته» على ذلك، لذا يصبح ضروياً تبيان المفاهيم للرأي العام كي لا تضيع الحقائق وسط ضجيج التحليلات والتوقعات والتأملات، لا سيما أن الكثير من القضايا المتعلقة بشؤون السياسة ورسم الخرائط هي مواضيع معقدة بقدر ما لا يتيح فهمها بشكل سليم لغير المتخصصين، وبما تعنيه الكلمة من صرامة وجدية عالم السياسة المحترف، لذا تغدو تلك المهمة توضيح المفاهيم ضرورة مستعجلة.
بطبيعة الحال، يطرح الإعلام المملوك لاصحاب المصالح الجيوبوليتيكة كل عنوان من العناوين المذكورة على أساس أنه حقيقة غير قابلة للمناقشة أو للإتيان بما يخالفها. لكن لننظر في الأسلوب الذي يتأوّل به خصوم سورية عبارة «الممانعة» وأيّ خلط يحدثونه بين المفردة وإن على نحو لغوي دلالي تداولي، ومفردات أخرى مثل « المقاومة». بحيث أن مفردات أو عبارات من هذا النوع تندرج ضمن مستويات متعددة من الفهم والتعقيد، فهي أدوات تعبئة وتحريض وفي الوقت نفسه مفاهيم صلبة يمكن دراستها على نحو أكاديمي، كما هو الشأن بالنسبة إلى مفاهيم مثل «الطبقة» و»الهوية» و»الثقافة». فحينما تقول الدولة السورية إن الممانعة هي حجر الزاوية في هويتها، فهي تنطلق من معطى أن «إسرائيل» عدو مصيري والعلاقة الوحيدة التي تربط العرب به هي علاقة صراع لا هوادة فيه، صراع سينتهي حتماً بوجود أو عدم لأحد طرفيه، و»إسرائيل» على الأقل تنظر بالمنظار نفسه إلى الشعوب العربية، لأنها دولة عنصرية فاشية ورقم أساسي في معادلة الرأسمال العالمي الذي تخدمه ويا للأسف أيضاً أعتى ديمقراطيات العصر ضد أمنيات مفكري وفلاسفة الأنوار ورغباتهم وأحلامهم.
فهم كهذا سيفضي الى علاقة مع هذا الكيان هي في أدنى مستوياتها علاقة قطيعة دبلوماسية وثقافية وسياسية واقتصادية، وفي أعلى مستوياتها، متى أمكن ذلك، علاقة حرب مباشرة ضروس لا تبقي حجراً على حجر. إذا فهمنا طبيعة العدو وطبيعة الدولة السورية وحلفها، وفهمنا طبيعة المشروعين سنفهم ما تعنيه عبارة «ممانعة» بمعنى الامتناع عن ربط أي قناة ودّ كيفما كانت مع عدو يسعى إلى إبادة شعوب يراها وفق عقيدته الصهيونية الشوفينية «غوييم» يستحقون الدوس بالأقدام والقتل ويحق لليهودي أن يمارس في حقهم كل ما يحرّم عليه في علاقته مع اليهودي بحسب نصوص العهد القديم وكما يعتقد ذلك بشدة حاخامات الدولة الصهيونية وآباؤها، ويرون شعوبنا بمنظار السياسة والمال شعوباً بلهاء حقيرة متخلفة تملك ما لا تستحقه من مقدرات ينبغي السطو عليها وتسخيرها للماكينة الاقتصادية العالمية.
هذه «إسرائيل» التي يراها – كل الذين يتهمون سورية بأنها ترفع الممانعة شعاراً فحسب كياناً يمكن التصالح معه والعيش الآمن الى جانبه، بل يسعون إلى إقامة المؤتمرات معها ولا يمانعون في أن يصافحوا قياداتها ويبادلونهم التحايا والتطمينات وأداء الخدمات في «الإيباك»، بل يباركون جميع الاتفاقيات العربية معها التي تروم التطبيع بمستوياته كافة يجتهد مفكروهم كي يبرروا ذلك. هل سورية تقوم بشيء من ذلك؟
سورية تمتنع عن كل ما يمكن أن يجمعها بـ»إسرائيل»، وتعلن في كل مناسبة وغير مناسبة بأن «إسرائيل» عدو وأن أي إنسان مهما يكن دينه أو فكره أو عرقه يريد أن يحمل السلاح في وجه «إسرائيل» فسورية وإيران على وجه التحديد مستعدتان لمنحه السلاح وما يرتبط به من أوجه الدعم. هذا ليس أمراً مخفياً أو مقلقاً لسورية بل مبعث فخر لها ولا يستطيع أحد إنكاره، لكن الخصوم يثيرون قضية بعينها لمغالطة الرأي العام والحط من مكانة سورية وقيمة مشروعها الممانع. يثيرون قضية الجولان ولماذا لم يطلق النظام رصاصة واحدة لاسترداده؟ ولِمَ لا يرد على الهجومات «الإسرائيلية» على أراضي سورية إن كان ممانعاً حقاً؟
عندما تطرح هذه القضايا بهذا التسطيح فانها تظلم علم الحروب وتظلم معطيات التاريخ، بل إن الصحافي الذي يثيرها بنبرة الواثق الذي حقق إنجازاً مستنداً إلى منهج التحقق التاريخي أو إلى خبرات الدراسات الاسراتيجية وفنون إدارة المعارك. هذا لا يتجاوز ما يلوكه الذين يوجهون خطاباً يظهر أنه منطقي للغاية أمام مشاهد لم يتخرج من برنامج دراسات تخصّصي يدفعه الى البحث والتنقيب والشك في كل ما يرد على سامعيه أو ناظريه.
في المعارك يكون التوقيت الذي يضعه كل طرف عنصراً حاسماً في نصره إذا استطاع أن يجر العدو الى معركة غير مستعد لها. «إسرائيل» تختار توقيتها وسورية لا ترد، خاصة في ظل الحرب الدائرة بين سورية وعدو من صنف آخر. ولن يكون الجيش السوري غبياً وينجر إلى جبهة أخرى في فترة انشغاله بالجبهة الداخلية. أما في ما يخص الجولان فمن يدرس التاريخ يعرف أنه كان في إمكان سورية أن تحصل على الجولان عشية نصر تشرين لو نحت منحى مصر، ولا يعتقدن أحد أن مصر أعادت سيناء بنصر الجيش في الميدان. فقد حوصر الجيش المصري لمدة ليست بالقصيرة بعد كسر خط بارليف، وكان ممكناً أن تمتد المعارك لأشهر، ولولا ضربات الجيش السوري في الجولان وهرولة السادات للصلح والتفاوض ومن تم التحضير لكامب ديفيد لما رست معادلة الأرض مقابل السلام، سلام يعيد الأرض مقابل اعتراف مخز في حق «إسرائيل» في الوجود، وهو الاعتراف الذي ستظل سورية ممتنعة عنه ما دامت فلسفة بعث روح العروبة التي تنشد وحدة هذه الشعوب واستقلالها وكرامتها هي البوصلة، وما دامت روح الأرسوزي وفارس خوري وابراهيم هنانو ترفرف تنير دروبها.
سورية في زمن التنازلات فضلت الاحتفاظ بخط العداء لـ»إسرائيل» على أن تعيد قطعة أرض وتفرّط في القضية الجوهرية المتمثلة في أن «إسرائيل» عدو ينبغي إزالته من الأرض عاجلاً أو آجلاً ولا صلح ولا سلام معه، في حين سعت «إسرائيل» وحلفها مُذاك في مختلف المناسبات الى اقناع سورية بالعدول عن موقفها وتسلّم الجولان في أقرب فرصة، وآخرها كانت الوساطة الفرنسية سنة 2009 في المفاوضات. فالموقف السوري الذي تقدم شرحه ترتبت عليه نتيجة استراتيجية: يتعلق الأمر بالدعم المطلق للمقاومة في كل من فلسطين ولبنان، ولذلك يصح تسمية النظام السوري بنظام المقاومة والممانعة، لأنه يعتقد ان الجولان سيعود من دون رضوخ للشروط التي تمليها «إسرائيل» وحلفاؤها الذين لا مانع لديهم من وجود سورية موحدة وقوية وإيران نووية، شرط ألاّ يكون هناك محور عدواني لـ»إسرائيل» يتربص الفرص لإثخانها بالجروح، بل لا يتوانى عن دخول حرب على جميع الصعد تنتهي بدحر هذا الكيان الشوفيني العنصري الإمبريالي وإقامة دولة وطنية فلسطينية يعيش فيها المسلم والمسيحي واليهودي.
أما في شأن فتح حرب سورية ـ «إسرائيلية»، فيجب ان نأخذ في الحسبان أن الأمر لا يتعلق بنزهة بل بحرب إقليمية يراها الطرفان معاً بمنظار الربح والخسارة في المرحلة الراهنة وليس بمنظار صحافي تافه يجتر أمنيات أسياده، وإذا قامت هذه الحرب لن يكون رأي القائلين الآن ان النظام السوري كاذب في ممانعته لأنه لم يقدم عليها، بل سيقولون عندئذ إنه مخطئ في حربه وإن «إسرائيل» لا تستحق حرباً ضدها وإنه يجلب الخراب! يعيد التاريخ نفسه ومثل هذا الخطاب قيل عشية حرب 2006. «إسرائيل» عدو مقيت لكن القابعين بيننا أخطر وأقوى، لذا يقول غيفارا: «إذا أردت أن تقاوم فاشحن مسدسك بعشر رصاصات، واحد للعدو وتسع للعملاء». ولا كلام يقال لمن يرى أمامه برأي العين دولة تدعم المقاومة بلا قيد أو شرط ثم يغض الطرف عن ذلك ليلومها على عدم إقدامها على حرب انتحارية كانت ستقضي عليها منذ زمن بعيد وتسهل على الأعداء دحر المقاومات التي لن تجد سنداً. لعلّه واضح جداً ماذا يريد هؤلاء، وواضح ما لم تمكنهم سورية منه.