الشلل اللبناني يتفاقم… أزمة نظام أم عجز موقت؟

د. وفيق ابراهيم

تبدو الأزمة السياسية في لبنان أكبر من حجم قواه الداخلية، وإلا لكان بالمستطاع التوصل إلى تسوية محلية تحفظ استمرار المؤسسات الدستورية، بانتخاب رئيس للجمهورية وإجراء انتخابات نيابية وتشكيل حكومة جديدة.

كل هذه الخطوات لم تحدث لانسداد الحوار الداخلي، ولم يتمكن النواب سوى من التجديد لأنفسهم مسلّمين البلد لحكومة تصريف أعمال تحتاج إلى اجتماع وزرائها لتمرير أية قضية مهما بدت تافهة.

أما لماذا لم ينتخب النواب رئيساً للجمهورية، فهناك سببان ظاهران وآخر مخفي:

أولها أنّ كلّ قوة تريد رئيساً موالياً لها وهذا لا يتمّ بسهولة.

والعامل الثاني، أنّ الدستور نفسه يشجع على التسوية لأنه يشترط حضور ثلثي المجلس النيابي لعقد جلسة الانتخاب الرئاسي، وهذا ما لا تستطيع أية قوة لبنانية أن تؤمّنه بمفردها أو حتى بتحالفاتها. فلبنان فيه سبع عشرة طائفة وعشرات الأحزاب فمن أين يُؤتى بالثلثين؟ وبغياب التسوية من جهة والنقص في التحالفات من جهة ثانية، يجد لبنان نفسه أمام حائط مسدود. وتجد الحركات الإرهابية والتكفيرية ساحات «حاضنة» لحركتها بذريعة نصرة تلك الجهة المظلومة على الجهة الأخرى، أو وقف صعود بعض الأحزاب التي تهيمن على لبنان كما تزعم…

فهل ما يحدث أزمة عابرة أم بنيوية؟

عجز «الداخل» عن عقد التسويات يكشف بوضوح مدى تأثير «الخارج» في مسار الأحداث الداخلية.

ولكي لا يُظلم أحد من هذا التحليل، نستحضر التاريخ لعلّه يُسدي لنا خدمة عن تطور انتخابات الرئاسة في لبنان منذ استقلاله وحتى اليوم.

وبعجالة يتبيّن أنّ فرنسا منفردة كانت القوة الأساسية التي تختار الرئيس اللبناني حتى عام 1956 تاريخ صعود عبد الناصر في العالم العربي والولايات المتحدة الأميركية في العالم بأسره، فاحتكرتا انتقاء الرئيس اللبناني بتسوية بينهما حتى هزيمة عبد الناصر في 1967… فعادت واشنطن إلى الاحتكار الفردي على قاعدة الاستئناس غير الملزم بفرنسا والسعودية… ومع تصاعد الدور السوري ابتداء من الثمانينات، صار لدمشق دور في اختيار الرئيس اللبناني، ازداد بقوة بعدما رعت السعودية اتفاق الطائف على قاعدة تراجع الدور المسيحي في لبنان وصعود دور المسلمين. فكان الطائف الذي تحوّل إلى دستور للبنان، معادلة برعاية أميركية تتقاسم فيها اختيار كلّ الرؤساء اللبنانيين السعودية وسورية. وظلّ الأمر على هذا المنوال حتى اندلاع الأزمة السورية، فدخلت إيران على خط الدول المؤثرة في القرار اللبناني بالمشاركة مع دمشق لا بديل منها.

فإذا كان الأمر على هذا المنوال، لماذا لم يجر اختيار رئيس وفق قاعدة التنسيق المتبعة بين السعودية وإيران ودمشق؟

وهنا يتضح مدى سيطرة الإقليم على الداخل اللبناني، لأنّ العلاقات السعودية ـ الخليجية والتركية تمرّ في أسوأ مراحلها مع إيران وسورية. ما أدّى تلقائياً إلى العجز عن اختيار رئيس لبناني، وكلّ فريق يريد رئيساً يوالي سياساته وهم ليسوا على عجلة من أمرهم. ومتناحرين على مستوى أزمات المنطقة بأسرها في اليمن والبحرين والعراق وسورية ولا يستطيعون حلّ أزمة وترك أخرى وهم عاجزون عن حلّ كامل في غياب التوافقات الدولية بين الولايات المتحدة وإيران وروسيا وربما الصين.

لذلك يجد السياسيون اللبنانيون أنفسهم في عجز كامل. يحاولون التغطية على ما يجري باختراع خلافات داخلية، وذلك للتعمية على مدى هيمنة القضايا الإقليمية على التفاعلات السياسية في لبنان، فترشيح السيد سمير جعجع وسيلة للتعطيل لأنّ للرجل أعداء يتهمونه في وطنيته ودمويته وعمالته حتى أنه قد يتسبّب بحرب أهلية إذا ما اجترح حلفاؤه معجزة وأوصلوه إلى سدة الرئاسة.

لمجمل ما ذكرنا، تبدو أزمة لبنان بنيوية ترتبط بشق العلاقة مع القوى الإقليمية. وهي علاقة سببها ثلاثة عوامل التاريخ والجغرافيا والاقتصاد، فلبنان بلد لا موارد فيه يحتاج إلى الخليج من أجل الإسناد المالي والسياحة وإلى سورية لأنها بلد المعبر المرتبط به بوشائج القربى وإلى إيران لأنها الحليف لأقوى مكوّن لبناني.

ولأنّ لكلّ نظام مستندات قوة، فإن تغييراً كبيراً طرأ على مواقع القوى الداخلية. وإذا ما استثنينا المسيحيين واعتبرناهم قوة تاريخية ضرورية للتوازن الوطني، فإنّ صعود حزب الله في لبنان ومجمل الإقليم العربي غير مترجم على المستوى السياسي.

ولحلّ هذا الخلل البنيوي، فإنّ على القوى السياسية الكبرى اختيار أمر من اثنين لا ثالث لهما يقيها خطر التنافسات في الإقليم العربي والإسلامي.

أولاً: انتخاب رئيس للجمهورية من الشعب مباشرة على أن يبقى مسيحياً.

وفي حالة تعذّر تنفيذ البند الأول ليس أمام السياسيين إلا إعادة ترجمة تطوّر القوة في المجتمع اللبناني دستورياً. ليس معقولاً أن تدعم السعودية مثلاًً حزب المستقبل بمليار دولار للتأثير في نتائج الانتخابات بلعبة شراء الذمم والأصوات، ودعم الولايات المتحدة القادرة على إقناع قسم من الرهبان، وبهذه الطريقة يأتي «المستقبل» برئيس موال للسعودية ورئيس حكومة منه يسيطر على حركة توزيع المال من الصناديق الحكومية المختصة وبعض المؤسسات والمصالح المرتبطة برئيس الحكومة مباشرة.

لذلك، فإنّ الإقرار ببنيوية الخلل يتطلب شجاعة وإقراراً بحق المسيحيين في المناصفة على قاعدة أنّ لبنان دائرة انتخابية واحدة، فبذلك نؤمّن اللحمة بين اللبنانيين ونعزل التأثير الخارجي عن انتخاب الرئيس، ونقي لبنان شرّ التجاذبات العنيفة التي تشجع الإرهابيّين على اعتبار البلاد جزءاً من خراسان وباكستان وأفغانستان.

هذا هو المرتجى والمأمول لكن الواقع لا يدفع إلى التفاؤل، لأنّ القوى الطائفية الممسكة بالنظام ذات سلطان مالي وإعلامي وعسكري وإقليمي ودستوري، فيما لا تمتلك القوى الوطنية والقومية ما يوازيها، لذلك فالانفجار قريب، والعاقل من يتجنّبه ويحذّر منه.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى