جنبلاط في الزاوية الضيقة؟
د. وفيق إبراهيم
يُشكّلُ الوزير وليد جنبلاط حالة فريدة في قدرته على التنقل بين أكثر من حبل وجسر بسرعة البرق مُتكئاً على طائفة توليه بغالبيتها ثقتها بعقلية قبلية، تزداد قوة بتقاطعاتها مع المذهبية الأقلياتية الحذرة دائماً من «غدرات الزمن» وهذا هو حال معظم الفئات اللبنانية إنما بدرجات أقلّ.
اعتمد الرجل على هذا المنطق الذي ورثه عن أسلافه، فجمع بواسطته «الدين والدنيا» مُنطلقاً الى البيئة السياسية الوطنية بدعم مطلق من بيئته الداخلية.
لذلك اتسمت سياساته بالقوة مع قدرة استثنائية على تغييرها في كلّ وقت مُستفيداً من عدم وجود معارضات في عرينه… منافسوه في «الداخل» يتحلون «بلياقات درزية» تجعلهم يبدون في معظم الأوقات وكأنهم حلفاء باستثناء ما جرى في حادثة الشويفات الأخيرة التي أدّت الدماء المتساقطة فيها مع فريق الأمير طلال أرسلان الى ولادة فجوة بين الطرفين أنتجت عداءات خطابية فقط.
لذلك تتسم سياسات جنبلاط منذ تلك المرحلة بجنوحه الغربي السعودي الحريري الذي يتقاطع مع شيء من الاعتبار النسبي لحزب الله بسبب قوته المحلية والإقليمية الى جانب صداقة عميقة لم تنقطع مرة مع رئيس المجلس النيابي نبيه بري، لكن جنبلاط تمتّع بقدرة مزدوجة على المحافظة على هذه الصداقة مع عدم ترجمتها سياسياً، لذلك اقتصرت مفاعيلها على القبلات والمصافحات.
لكن هذه المرحلة مهدّدة اليوم بالانتهاء، فتغطيته لحملة «مملوكية عثمانية» قادها فرع المعلومات لاعتقال الوزير السابق وئام وهاب كان يمكن لها أن تنجح وتُعرّي وهاب لولا فشلها، وعلى الرغم من الأعداد الكبيرة في هذه الحملة التي تشبه غزوات المماليك وبني عثمان للقرى الدرزية في غابر القرون، إلا أنّ تحركاً أقوى منها نجح في إجهاضها حائلاً دون تنفيذها لأغراضها، قد لا يكون الهدف قتل المستهدف، لكن اعتقاله و»شرشحته» بشكل مهين يؤدّي الى إسقاطه شعبياً فيصبح بلا «عمل» ولعلهم أرادوا «قنصه» بشكل لا يَعرِف أحدٌ مَن هو الفاعل.
في كلا الحالين نجا وهاب شخصياً فازدادت قدراته السياسية والشعبية والدليل تصعيده التلفزيوني لهجماته السياسية على ما يُسمّى فساد الحريرية السياسية.
هذه الأوضاع تحشر جنبلاط في زاوية ضيقة وعلى مستويات عدة.
درزياً لا تقبل العصبية الدرزية التاريخية من كلّ الاتجاهات مهاجمة قراها حتى ولو كانت على خلاف مع الزعيم الأكبر، فمسألة الكرامة والعرض أساسية عند بني معروف بالإضافة الى توجّسهم من ان تصبح هذه الغزوة سابقة قابلة للتكرار ما يثير استياء قاعدة كبيرة قد لا تذهب سريعاً لموالاة «أبي هادي وهاب» لكنها تراكم. وفي مثل هذا التراكم خير للمنافسين المترقبين.
إنّ أقلّ ما يمكن لهذه الحادثة أن تفعله هو قدرتها على الجمع بين وهاب والمير طلال والداوود والأعور والخليل والحزب السوري القومي الاجتماعي لما له من حضور وازن، لكنه لا يتحرّك مذهبياً بل سياسياً ووطنياً، وهذا ما يعبّرُ عنه وهاب أيضاً بحديثه عن المشروع الوطني المتحالف مع سورية.
المستوى الثاني لتداعيات هذه الحادثة هو قدرتها على التسبّب بالقطع النهائي بين حزب الله والوزير جنبلاط وصولاً إلى خلق عداء كبير يشابه العداء بين الحزب والقوات على سبيل المثال، وكذلك الرئيس بري الذي يعتبر علاقته بالحزب أساساً ومحوراً لانسجاماته السياسية الموازية يُبنى عليه. وهناك شعور لدى حزب الله بأنه كان مستهدفاً من الفريقين الحريري والجنبلاطي، وبالتالي السعودي الأميركي، في غزوة الجاهلية «المملوكية»، لذلك لن يكون بمقدوره غضّ الطرف عن جنبلاط كما كان يفعل دائماً.
للتذكير فقط فإنّ منافسي جنبلاط من بين السياسيين الدروز يقولون إنّ معظم قوته في البيئة الداخلية مصدرها من عاملين: الدولة السورية والجيش السوري في لبنان، أليست الدولة السورية هي مَن أفسح الطريق أمامه لغزو الإدارة اللبنانية تمويلاً وتوظيفاً ونفوذاً؟ أليس الجيش السوري وحلفاؤه في بعض الفصائل الفلسطينية هم مَن قاتل عنه القوات والكتائب في الجبل موفرين له دوراً سياسياً وطنياً، وأيضاً على المستوى الداخلي عند بني معروف.
لقد بنى جنبلاط بسياساته في المرحلة السابقة على أساس انّ الاتحاد السوفياتي قد انهار مقابل هيمنة أميركية سعودية. وهذه أولت السوريين مسؤولية لبنان فامتطى أبو تيمور هذه المعادلة «متحنجلاً» بين ولاء أميركي دولي وسعودي إقليمي وسوري في لبنان، وتحالفٍ عميق مع الحريرية السياسية في إطار وضع اليد على الدولة منذ مؤسّسها رفيق الحريري. هذا مع علاقات أخوية مع بري وتنسيقه للضرورة السياسية مع حزب الله ضمن البيئة الواحدة.
لقد اعتقد ابو تيمور أنّ رحيل السوريين من لبنان هو إنهاء دورهم السياسي، فقلب لهم كما تقول العرب «ظهر المِجن» مبدياً عداوة عميقة لهم، واضعاً إمكاناته في خدمة الحريرية السياسية مقابل استنزاف كبير لإمكانات الدولة، بيد أنّ هذه الحال لم تظهر على شاكلة تحسّن في أوضاع المناطق الجبلية، وهذا الوضع لا يقتصر على حالة جنبلاط بل يشمل كلّ القيادات اللبنانية من كلّ الطوائف والمذاهب باستثناء حزب الله الذي لا يشكل حتى الآن جزءاً من مركزية الدولة اللبنانية.
لقد مارس حزب الله سياسات «إدارة الوزارات» التي كان ينالها بعقلية استعمالها للوجود السياسي في قلب الدولة اللبنانية وللتأثير على موقفها من حركته الإقليمية وضبطها في الحدود الدنيا.
أما وئام وهاب فهو سياسي مقاتل لم يشارك مطلقاً في عمليات فساد وإفساد ولو كان عليه أيّ مخالفة حتى ولو كانت بحجم «إبرة» لسمعنا آلاف الاتهامات بحقه، الرجل إذاً «بريء» وتعرّض لاضطهاد حريري مدعوم من أهل بيته الجبلي ويتمتع استناداً الى الزمن القصير لتجربته بدور وازن يضيف عليه جرأة بجرعات عالية غير مألوفة عند سياسيين لبنانيين شعارهم الصمت والهمس والاختباء.
ولدى وهاب تحالفات قوية لبنانياً وإقليمياً لا تتخلى عنه بسهولة.
لذلك فإنّ جنبلاط المحشور بهفوته الكبيرة في الجاهلية يمرّ باستياء درزي كامن قد ينتظر وقتاً أكثر وظروفاً ملائمة للتعبير عن نقمته عليه، وعلاقاته بحزب الله مرشحة لأن تنتهي بقطيعة كبيرة بعد مدة من الزمن فالحزب لا يخطئ حالياً باستهدافه لاعتبارات طائفية يعمل عليها جنبلاط لتحصين وضعه.
كما أنّ المحور الاميركي السعودي يتراجع مقابل صعود روسي سوري إيراني. وهذا له تداعياته لبنانياً، فهل يهرول جنبلاط نحو الروس باحثاً عن متنفّس يلجم له نقمة الفريق الآخر منه؟ هو جدير بفعل هذه الأمور لكن محور أرسلان وهاب وحلفائهم يكتنز إمكانات الصعود ولن يتأخر بترجمتها على الأرض محاذراً من مشاريع اصطدامات داخل الدروز قد يكون الفريق الآخر بصدد تحضيرها لإنقاذ نفسه من التراجعات الدراماتيكية المرتقبة.