وثيقة وزارة الخارجية الروسية المعارضة لتسلط الدول الغربية على قرارات المنظمات الدولية
د. أحمد الزين
قبل القرن التّاسع عشر، وقبل مؤتمر فيينا 1815 على وجه التّحديد، لم تكن المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة موجودة في أيّ مكان من العالم. من المعلوم أنّ هذا المؤتمر هو الّذي أوجد الأرضيّة المناسبة لإنشاء هذه المؤسّسات، إذ ظهرت بعده مجموعة منها كاللجنة الدوليّة للصّليب الأحمر 1863 ومعهد القانون الدولي 1873، وقد وصل عدد هذه المنظمات الدولية غير الحكومية عام 1854 إلى ما يقارب ستّ منظمات إلاّ أنّ هذا العدد ظلّ في تزايد مستمرّ حتّى وصل عام 1945 إلى ما يربو على الألف منظّمة دوليّة غير حكوميّة.
والحقيقة أنّ الظّروف الاقتصاديّة والسياسيّة الّتي عصفت بدول العالم بدايات القرن المنصرم من حربين عالميّتين، وحروب صغيرة لا حصر ولا عدّ لها، وما أعقب كلا منها من أزمات اقتصاديّة واجتماعيّة ناهيك عمّا شهدته ولا زالت تشهده أغلب دول العالم من انتشار العنف فرض واقع أن تكون هنالك منظّمات ذات غطاء إنساني عالمي تقوم بالدّفاع عن الشعوب والأفراد في حالات الحروب أو معقّباتها. كلّ هذه الأمور أدّت بشكل أو بآخر إلى نموّ مضطرد لهذه المنظّمات الدوليّة غير الحكوميّة ولعلّ التمويلات الكبرى الّتي استطاعت بعض هذه المنظّمات الحصول عليها، قد شكّل حافزاً مشجّعاً لإنشاء المزيد والمزيد منها.
من الأمور الّتي لا يختلف عليها اثنان أنّ قيام هذه المنظّمات وتطوّرها المتنامي إنّما كان لأسباب إنسانيّة عالميّة ذات حدود مرسومة، كمحاولة حلّ المشكلات الّتي يمكن أن تنشأ بين دولتين أو أكثر، أو مدّ يد العون في سبيل التّوصّل إلى مصالحة ترضي كلّ الأطراف، أو محاولة إنهاء الخلافات التي لا تعدو أن تكون في الغالب نزاعات على الحدود أو خلافات حول ملكيّة في ثروة جوفية مشتركة أو بناء سدّ في دولة ويكون بناؤه ذا تأثير سلبي على دولة مجاورة وغيرها من النزاعات الّتي قد تنشأ بين الدول. ولكن مع مرور الزمن وتطوّر عمل هذه المنظمات، تحوّلت أهداف بعض هذه المنظمات الى ما أبعد من الأمور الإنسانية ويشهد التاريخ الحديث على انغماس بعض المنظمات في صراعات سياسية. وقد يبرّر أحد ما تدخّل هذه المنظّمات في الشّؤون الدّاخليّة لبعض الدّول بأنّ على دول «العالم الحرّ» التّوحّد في سبيل التّصدّي لدولة معيّنة تتسبّب سياساتها في إلحاق الضّرر بالسّلم الإقليمي، أو بالسّلم الدّولي. والحقيقة أنّ مثل هذا التّبرير قديم ولطالما أسيء فهمه وتطبيقه ممّا أدّى إلى قيام حربين عالميتين حملتا الدّمار والخراب إلى دول القارة الأوروبيّة الكبرى وجعلتها تخسر مستعمراتها الّتي كانت موزّعة في جميع أقطار الأرض.
إلاّ أنّ تدخّل منظّمة دوليّة أو إقليميّة، في الشؤون الداخلية لأيّ بلد أو دولة، أو أن تشكّل هذه المنظّمة غطاء لتدخّل دولة معيّنة في أمور داخليّة لدولة أخرى، تصرّف، في الواقع، يتجاوز الغايات الّتي نشأت هذه المنظّمات في سبيل تحقيقها، إذ إنّ مثل هذا الأمر يخرجها من إطارها الدولي الشّامل ويدخلها في إطار الانحياز والعمل لصالح دول بعينها وهكذا تفقد معناها ومضمونها الإنساني.
ولم تكتفِ دول «العالم الحرّ» بتبرير تدخلاّتها في الشؤون الداخليّة لبقيّة دول العالم تحت غطاء المنظّمات الدوليّة وسواها عبر النّظريّة المذكورة أعلاه، بل زادت مبرّراً آخر يقول إنّه ينبغي أن تقوم مجموعة من الدول الكبرى «المختارة» بـ «ضرب طوق» حول كلّ دولة لديها مخزون من الثروات الطّبيعيّة كالنّفط، والمياه، والذّهب هي فوق حاجتها، في حين ترغب دول أخرى بالحصول على هذه الثروات. ولعلّ خير مثال على هذا الطّوق الخانق ما يحصل في دول الشرق الأوسط العربي – الفارسي إذ تفرض عليها عقوبات وتحاصرها بالحروب والتّدخّلات الخارجيّة تحت غطاء المنظّمات الدوليّة ومتفرّعاتها وكلّ ذلك بسبب ما تختزنه أراضي هذه الدّول من ثروات طبيعية هائلة.
مع تفكك الاتحاد السوفياتي في بداية التسعينيات، خلقت الولايات المتحدة الأميركية احادية عالمية وحاولت السيطرة على العديد من مقدرات الدول الغنية بالتهديد تارة، والوعيد احياناً وفي كثير من الأحيان من خلال إشعال نيران حروب والتدخل لإطفاء هذه النيران. ولكن بعد عودة روسيا الى موقها الطبيعي بين الدول العظمى وكسرها الاحادية الفتاكة للولايات المتحدة الأميركية، فإنها بدأت محاولات حثيثة لإحلال السلام في مناطق مختلفة من العالم مثل سورية على سبيل المثال وليس الحصر. ومن الأمور التي تسعى روسيا الى محاربتها هي التدخل السافر لبعض المنظمات الدولية في سياسة الدولة «الضعيفة» لصالح القوى الكبيرة. ولهذه الغاية وزعت وزارة الخارجية الروسية وثيقة على البعثات الأجنبية في موسكو تتضمّن رؤيتها لتنظيم عمل المنظمات الدولية وسيتمّ الكشف عن مضمون هذه الرسالة للمرة الأولى في هذه المقالة.
بداية تضمّنت الوثيقة شرحاً لابتعاد بعض المنظمات الدولية عن مسارها الإنساني المحدّد لها وكيفية تلاعب بعض النافذين في هذه المنظمات بالسلطة القانونية لأهداف سياسية بحت بعيدة عن الأهداف الإنسانية. وقد تضمّنت الوثيقة حالتين أولاها تابع لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية:
«تنص قرارات الدورة الاستثنائية لمؤتمر دول اتفاقية الأسلحة الكيميائية، التي تمّ اتخاذها في حزيران 2018 تحت ضغط بريطانيا العظمى والولايات المتحدة، على تكليف الأمانة الفنية لمنظمة حظر الأسلحة الكيميائية بوضع إطار عمل مؤسّسي، وهذا الإطار يؤدي إلى انتهاكات لسيادة الدول تحت حجة التزاماتها تجاه اتفاقية الأسلحة الكيميائية».
أما الحالة الثانية فهي تختصّ بسورية ومحاولة للالتفاف على السيادة السورية وإخضاع أي مسؤول سوري للتحقيق تحت حجة الجرائم الإنسانية:
«في كانون الأول 2016، اعتمدت الجمعية العامة للأمم المتحدة القرار رقم 71/248 بإنشاء ما يسمّى الآلية الدولية للمساعدة في التحقيق والملاحقة القضائية للأشخاص المسؤولين عن أخطر الجرائم المرتكبة في الجمهورية العربية السورية منذ آذار 2011 بموجب القانون الدولي».
وتتابع وثيقة وزارة الخارجية الروسية الإشارة إلى أنه من الممكن أن يتكاثر هذا النوع من الممارسات في هيئات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات. وفي هذا الصدد، تؤكد الوزارة أنه وفقاً للمبدأ العام للقانون الدولي، الذي صاغه قرار محكمة العدل الدولية بشأن طلب منظمة الصحة العالمية للرأي القانوني بشأن مسألة شرعية استخدام الأسلحة النووية في نزاع مسلح، تعمل المنظمات الدولية وفقاً لمبدأ التخصص. ويعني ذلك أنّ المنظمات الدولية لها الحق في أداء الوظائف فقط، والتي تحدّدها وثائقها التأسيسية وليس التدخل في تطبيق القانون كما هو الحاصل في الوقت الحالي.
وتخنم الوثيقة أنّ «النتائج السلبية لاستخدام مثل هذه الممارسات للدول وتوازن العلاقات الدولية واضحة. الدول النامية هي أول من يقع ضحية لمثل هذه الأساليب. اليوم بشكل عام تخضع سورية للأنشطة المذكورة ولكن غداً يمكن أن تكون أيّ دولة. نحن نرفض رفضاً قاطعاً حجة الدول الغربية بأنّ كلّ شيء مسموح به في المنظمات الدولية غير المحظور مباشرة، والذي تستغله لتبرير إمكانية إنشاء آلية عزو. من وجهة النظر القانونية هذه الحجة لا أساس لها.»
ختاماً، مما لا شك فيه انّ الأحادية الأميركية لم تأت الا بالويلات والمصائب على العالم ككلّ وخاصة القرارات الغير مدروسة التي شهدناها منذ سنتين ايّ منذ تسلّم الرئيس الأميركي دونالد ترامب الرئاسة وتصرفه كأنّ العالم هو الحديقة الخلفية لبلاد العم سام. ومما لا شك فية أنّ وزارة الخارجية الروسية ستتابع مساعيها الرامية الى إحلال السلام في المناطق المشتعلة جراء هذه الأحادية والتهوّر الأميركي وطبعاً بمساعدة العديد من الدول الأوروبية التي بدأت تشعر باللهب يمتدّ الى أطراف القارة العجوز.