التعارضات بين الإدارة الأميركية والصهيونية في ميزان سوراقيا
د. إبراهيم علوش
ثمة طريقتان فحسب لفهم الاعتراف الرسمي السويدي بـ«دولة فلسطين»، واعتراف مجلس العموم البريطاني غير الرسمي قبله فيها، ولفهم الحملة الأوروبية المتصاعدة ضد المستعمرات الصهيونية في الضفة الغربية ومنتجاتها: إما أنها صحوة رسمية أوروبية من ماضٍ استعماريٍ بات شديد الوطأة على الضمير الأوروبي المرهف، وإما أنها ضغوط رسمية أوروبية على حكومة نتنياهو في سياق خلاف الأخيرة مع إدارة أوباما حول ملف القدس ومستعمرات الضفة والتفاوض.
كذلك ثمة طريقتان فحسب لفهم التصعيد «الدبلوماسي» للسلطة الفلسطينية ضد الانتهاكات «الإسرائيلية» في المحافل الدولية، ولفهم «التشبيح» الرسمي الأردني ضد الانتهاكات الصهيونية للمسجد الأقصى والقدس: إما أنها «دعسة فجائية» لسلطتي أوسلو ووادي عربة في مسار مواجهة العدو الصهيوني من جراء صحوة وطنية، وإما أنه تصعيدٌ محكومٌ بالمليمتر المربع بسقف الخلاف بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو حول ملف القدس ومستعمرات الضفة والتفاوض.
لا نستبعد الضغط الشعبي من أسفل بالطبع. فالرأي العام السويدي والإيرلندي – أكثر تعاطفاً مع القضية الفلسطينية من غيره، والشارع العربي تشكل قضية القدس والأقصى بالنسبة إليه قضيّة متفجرة بكل تأكيد، لكن في ظل تهاوي السقف السياسي لـ«مناهضة الصهيونية» بهذه الطريقة فإن كل الحالة تتحول إلى أداة تنفيس، بل للتغطية على صفقة الغاز الكبرى مع العدو الصهيوني في الحالة الأردنية، وللتنسيق الأمني مع العدو الصهيوني في حالة السلطة الفلسطينية، وللدور الأوروبي الاستعماري في الحالة السورية والعراقية.
لكنّ حساسيات اليمين الصهيوني الديني والمتطرف باتت تظهر بشكل متزايدٍ كعصي في دواليب سياسات إدارة الرئيس أوباما: لا لنقل الثقل الأساسي للولايات المتحدة إلى منطقة المحيط الهادئ أو أوروبا الشرقية لمواجهة صعود الصين وروسيا! ولا لممارسة الضغوط على الحكومة «الإسرائيلية» لتقديم تنازلات في نقطة تافهة مثل «تجميد الاستيطان» لأجل تسكين الملف الفلسطيني كالعادة كلما أرادت الإدارة الأميركية ضرب دولة عربية ما أو تفكيكها!
لذلك نجد أطرافاً أوروبية وعربية ويهودية تمارس ضغوطاً على حكومة نتنياهو تحت السقف، لا تمس حق الكيان الصهيوني بالوجود، ولا ترقى إلى دعم المقاومة ولا إلى التأكيد على عروبة فلسطين، بل تكرس فكرة «التعايش» و«التطبيع مع النشطاء «الإسرائيليين» في مواجهة التطبيع مع المستعمرات» فحسب، وتشطب عروبة الأرض تحت عنوان الدولتين أو «الدولة الواحدة لكل مواطنيها»، حتى في أقصى حالاتها مثل حالة «بي دي إس» BDS.
لقد جنّ جنون الحركة الصهيونية من واشنطن لـ«تل أبيب» عندما تراجع أوباما عن ضرب سورية على خلفية اتفاق الكيماوي السوري مع لافروف، وراح ممثلوها يتهمونه بالجبن علناً! وما اتهام مسؤول أميركي لنتنياهو بالجبن حديثاً إلا نوعٌ من «تسديد الحساب»، مع تأخير عام ونيف، فالمثل الأميركي يقول: الانتقام وجبة يُفضّل تقديمها باردة!
بالنسبة إلى دولة عظمى مثل الولايات المتحدة تبني سياساتها على اعتبارات استراتيجية وجيو-سياسية كبرى، ليس أقلها محاولة الحفاظ على ما أمكن من مواقعها في زمن التحول إلى التعددية القطبية وما يستدعيه ذلك من الحاجة إلى احتواء روسيا والصين والدول المستقلة في العالم الثالث، فإن الحاجة إلى مراعاة الحساسيات الدينية المفرطة لليمين الصهيوني في القدس أو الخليل باتت عبئاً ثقيلاً على الإدارة الاميركية في العالمين العربي والإسلامي. في المقابل، تشتغل حكومة نتنياهو بـ»التنكيد» على إدارة أوباما في أروقة السلطة في واشنطن عبر اللوبي الصهيوني، وفي السياسة الدولية وصولاً إلى مغازلة روسيا والصين، وهذا ما يقترب بشدة من الخط الأحمر الأميركي. ومارست إدارة أوباما ضغوطاً على حكومة نتنياهو لوقف إطلاق النار في غزة وصلت إلى وقف شحنات أسلحة أميركية للكيان الصهيوني!
لكن مثل هذه التناقضات بين إدارة أوباما وحكومة نتنياهو، التي تستخدم فيها إدارة أوباما أدوات أوروبية ورسمية عربية وحتى يهودية، لا تعني البتة تصدع التحالف الأميركي-الصهيوني، فالعلاقة الأميركية-الصهيونية علاقة عضوية ترتبط باندماج النخب في البنية الاقتصادية-الاجتماعية المعولمة للإمبريالية العالمية، لا بحذق «العلاقات العامة» اليهودية مثلما يظن بعض السطحيين… إنما هو تناقض ضمن العائلة الواحدة من جهة، وبين الأولويات الاستراتيجية للإمبريالية الأميركية في اللحظة الراهنة، والخرافات التوراتية لليمين الصهيوني.
قد تكون الخرافات التوراتية ضرورية لتبرير مشروعية وجود الكيان الصهيوني لدى الصهاينة، ولو كانوا علمانيين أو ملحدين، لكنها بصيغتها المفرطة مثلما تتجلى عند الأحزاب الصهيونية المتطرفة عبءٌ كبيرٌ على سياسة الإدارة الأميركية الحالية. فليس هذا تناقضاً مع الصهيونية السياسية بمقدار ما هو تناقض مع الصهيونية الدينية، وهو تناقض تطمح الإدارة الأميركية لحله عبر «تغيير حكومة» الكيان الصهيوني، مثلما يطمح الكيان الصهيوني إلى حله عبر «تغيير حكومة» الولايات المتحدة!
أصيب بعض قادة الصهاينة بشيء من التوتر والحسد والخوف على الدور الإقليمي عندما لاحظوا توجه إدارة أوباما، بعد خطابه في جامعة القاهرة عام 2009، إلى التحالف مع أطياف إسلاموية مختلفة لتغيير خريطة المنطقة وتوظيف الإسلام السياسي في مشروع التفكيك وإقامة سد أيديولوجي وطائفي في مواجهة دول البريكس… فثمة تعارض تركي-«إسرائيلي» على الدور الإقليمي تحت سقف العائلة الإمبريالية-الصهيونية التي ينتمي إليها كلاهما، وها هي الطائرات التركية تشارك طائرات حلف الناتو يومياً في مواجهة الطلعات الجوية الروسية، ويشتركون جميعاً في هدف استراتيجي واحد اليوم هو تفكيك سورية والعراق.
هكذا نرى أن «جبهة النصرة» في محيط الجولان، وفي اقترابها من لبنان من جهة جبل الشيخ، تشكل حليفاً موضوعياً للكيان الصهيوني في مواجهة حزب الله، حتى لو نفينا عنها أيّ تهمة بالعمالة، ما دامت تعتبر أن «قتال الروافض» هو أولويتها الأولى، وقتال النظام السوري. وتركيا في في محيط «عين العرب» تشكل حليفاً موضوعياً لـ«داعش» في مواجهة سورية والعراق. وفي ذلك يتجلى البعد العضوي للعلاقة المحكومة بسقف الناتو في جميع الأحوال.