الاستقلال والدول «المستقلة»… هل هي مستقلة فعلاً؟
محمد ح. الحاج
السؤال المطروح في العنوان لا يستثني القوى العظمى ذاتها، وهو سؤال مطروح باستمرار… هل هي فعلاً مستقلة، وما هو الاستقلال الحقيقي؟
تحتفل كثير من دول العالم بذكرى الاستقلال عن محتلّ، كان بقوته العسكرية يفرض عليها نفسه ورؤاه وسلوكه ويفعل فيها ما يشاء وهذا لم تنج منه أميركا بالذات فقد كانت مستعمرات لقوى عالمية تاريخية من انكليز وفرنسيين واسبان وبرتغال إلخ…
مضحكة هي مظاهر الاحتفال بذكرى الاستقلال، وأكثرها مدعاة للعجب والسخرية هي الدول التي تعجز عن أيّ فعل وتحتاج في سيرورة حياتها للمعونات والمساعدات من كلّ جانب وتحتاج للحماية والرعاية وتلقي التعليمات من أكثر من جهة خارجية لتشكيل مجلس بلدي أو قيادة مرحلية أو إسقاط قيادة قديمة وهكذا… الأمثلة عالمياً كثيرة، وعربياً يمكن القول إنها بأكملها دون استثناء والمثال الأقرب العراق وقطر والبحرين ولبنان والأردن، وحتى مصر وتونس، ولا استثناء حيث أنّ مفهوم الاستقلال الحقيقي أكثر دقة في التعريف مما يطلقون عليه استقلال، ومن المؤكد أنني لا أقصد الانعزال والانسلاخ عن العالم المحيط ومقاطعته والاستغناء عنه ليكون البلد مستقلاً.
الدولة التي لا يمكنها تشكيل مؤسّساتها الداخلية بمعزل عن الوصاية والتدخل الخارجي هي ليست مستقلة، والتي لا تستطيع توفير الأمن الغذائي والصحي والتعليمي وكلّ متطلبات الحياة دون معونة خارجية، أيضاً ليست مستقلة، والدولة التي لا يمكنها الدفاع عن نفسها وتوفير متطلبات ومستلزمات الدفاع، ليست مستقلة، ولا بدّ تقع تحت حماية دولة أكبر أو أكثر من دولة، فأين هي الدول المستقلة على امتداد الكرة الأرضية، واستطراداً هل الدول التي نسمّيها دولاً عظمى أو كبرى هي دول مستقلة؟
لم تخرج فرنسا من بلادنا إلا بعد أن زرعت ألغامها وسلّمت لأتباعها ومزّقت وحدتنا، كذلك فعلت بريطانيا، وإذا كانت فرنسا سلخت جبل لبنان لمصالحها بالقول إنه للمحافظة على المسيحيين، فقد بقي في الشام مسيحيون أكثر منهم في لبنان، والمعادلة التي أرستها بعد ضمّ الأقضية الخمسة وطرابلس الشام أعطت لتركيا النموذج للمطالبة بأن يكون اللواء السليب مستقلاً إدارياً ويرتبط مع الوطن الأمّ بوحدة جمركية ومالية كما هو حاصل بين لبنان والشام، وكان ذلك هو التمهيد عام 1936 لفصله وإلحاقه نهائياً بتركيا وبموافقة ضمنية فرنسية وضغوط بريطانية، كذلك حصل بالنسبة لشرقي الأردن، وفلسطين، وحتى الكويت بالنسبة للعراق، ويعملون من جديد على تكرار التاريخ وليس هو من يكرّر نفسه، شمال العراق، وشمال شرق سورية، وشمال غربها إدلب ثم لتحتفل هذه الشذرات الممزقة بما تسمّيه استقلالاً… وأحدثه «الاستئلال» اللبناني عن سورية – من جديد وهم ما كانوا، ولن يكونوا مستقلين حتى اللحظة، ولا في المستقبل!
هل فرنسا وبريطانيا وألمانيا هي دول مستقلة، ومعها كلّ دول الحلف الأطلسي الناتو بما في ذلك كندا وأستراليا واليابان؟ ولماذا تفرض القوة الأميركية وجودها على أراضي هذه الدول بحجة حمايتها وهي القادرة على حماية نفسها بوجه أية قوة أخرى بما في ذلك القوة الروسية التي قال عنها تشرشل إنها قوة سلام، فإنْ ماتت القوة الروسية مات السلام! إذا، تبقى القوة الوحيدة التي تقوم أميركا بحماية الأوروبيين وغيرهم منها، هي ذاتها، القوة الأميركية التي لا تقف عند حدود احترام أيّ من الدول الأخرى وتعتبرها تابعة ليس مسموحاً لها الخروج من ظلّ الجناح الأميركي! ولكن هل القرار هو قرار الشعب الأميركي أم أنّ أميركا ذاتها كدولة عظمى غير مستقلة واقعاً، ومن يحكمها أو يستعمرها؟
النظام الرئاسي الأميركي محكوم لجملة من المواقع والجهات المؤثرة على امتداد الدولة، والحزبان الكبيران يخضعان لهذه الجهات التي تحدّد لهما الخيارات وترشح الشخصيات التي تأخذ النسق الأمامي وهي شخصيات ترتبط دون استثناء بمحافل محلية، ثم بالمحفل الأعظم الذي يتحكم بالجميع، ويعلم العالم كله أنّ ذراع القوة العظمى الذي يطال أطراف العالم بما في ذلك الداخل الأميركي هي الاستخبارات المركزية التي تعود في أصولها إلى تنظيم كوكلوكس كلان العنصري، الذي سيطرت عليه في ما بعد عائلات ما يسمّى اليوم «المتنورين» وهي عائلات ماسونية تمتلك المال والإعلام، وعن طريق هاتين القوتين تحدّد خيارات الأحزاب ومسار الانتخابات الشكلية «ديمقراطياً» ليصل من يناسب المرحلة اللاحقة لعملها ومصالحها، ولهذا السبب جاؤوا بالرئيس الحالي دونالد ترامب الذي لا يتفق مع أغلب المحيطين به، لكنه يحقق مصالح المحفل ويحمل المسؤولية للدولة الأميركية باعتبارها دولة عظمى، لكنها في الحقيقة دولة محتلة من الداخل كما صرّح البروفسور الأميركي فرانكس لامب قبل عام أو أكثر بقليل، وهذا الاحتلال جاء مطابقاً لاستشراف الرئيس الأسبق بنجامين فرانكلين وهو من حذر من هذه النتيجة حيث لم يتمّ منع اليهود من دخول الولايات المتحدة، الآن كلّ أبناء أميركا يعملون في خدمة «اليهود الكسالى» كما وصفهم.
العائلات المالية الأميركية الكبرى تمتلك أغلب أسهم الشركات الصناعية الكبرى، المدنية والعسكرية على وجه الخصوص، ومع هذه الشركات الكارتل النفطي، وهي بمجملها أدوات ضغط على الإدارات الأميركية المتعاقبة، وفي الوقت ذاته هي مراكز استقطاب اليد العاملة المحلية التي عليها العمل ساعات طويلة، وساعات إضافية لتوفير حياة الرفاهية التي اعتادوها، ولهذا نجد أنّ أيّ انخفاض في عمليات أيّ من هذه الكارتلات يؤدّي إلى تسريح أعداد ضخمة من اليد العاملة التي تدفع بالإدارة إلى مزيد من الضغوط على الخارج وزيادة عمليات تصدير السلاح والمنتجات الأميركية للحصول على المزيد من الأموال واستعادة دورة العمل، وما يحصل في الولايات المتحدة يحصل في باقي الدول المماثلة الدائرة في فلكها وبالتالي ترتبط بشكل ما بحبل سري مع الكارتل الأكبر فيها، ويمكن لهذا الكارتل التأثير بطرق مباشرة وغير مباشرة على كلّ الساحات الدولية الدائرة في فلكها وهذا يحصل في فرنسا وقد يحصل في دول أوروبية أخرى، دون استثناء بما في ذلك بريطانيا إذا حاولت الخروج من العباءة الأميركية، علماً أنّ أغلب العائلات النافذة في الولايات المتحدة تعود بأصولها إلى إيرلندا واسكوتلندا وباقي الجزر البريطانية وغرب أوروبا بنسبة أقلّ، فأين هو الاستقلال؟
هل الاتحاد الروسي أكثر استقلالية من الغرب؟ ربما بشكل نسبي لكن واقعه يرتهن لحركة التجارة العالمية وحاجة أوروبا لنفطه وغازه، وتفادي الصدام مع قوته العسكرية حيث يحاول الأميركي خلق مثل هذا الصدام، الروسي محكوم بعلاقات مختلفة مع محيطه، تتراوح بين الولاء للمجموعات من أصول روسية، وبين النفور والعداء من قبل مجموعات مناهضة، ونجد استقلاليته في القرار لا تخضع لأبعد من مصالح الاتحاد المتمثلة في مجموعة شركات النفط والغاز وشركات الصناعات العسكرية والتي لم تكن ملكيتها حسب المتوفر من المعلومات إلا للدولة.
الصين التي عانت من الاستعمارين الياباني والبريطاني، خرج الياباني، بينما اقتطع البريطاني هونغ كونغ التي تمّ استردادها مؤخراً بينما وبدعم أميركي قامت «دولة الصين الوطنية» تايوان وما زالت أميركا وبريطانيا ومعهما دول الغرب يدعمون هذه الدولة الكيان بوجه الدولة الأمّ ويصرّون على استمرار وجودها ومنع عودتها وإنهاء المسألة رغم قدرة الصين على اجتياحها خلال فترة زمنية قصيرة، وتقف روسيا دون ذلك إضافة إلى عقلانية وبراغماتية القيادة الصينية.
أخلص إلى القول بانعدام الاستقلال التامّ الناجز لأيّ من دول العالم، وإذا كانت روسيا وأميركا تمثلان الملك على الرقعة، واختلاف موقع باقي الدول بين وزير أو حصان وفيل وقلعة وبيادق، فإنّ من الصدق مع النفس الاعتراف بأنّ أحداً من عالمنا الثالث لا تتمتع دولته بالاستقلال، ومن غير المناسب الاحتفال بهذه الذكرى، خصوصاً في أشباه الدول والمحدثة منها على وجه الخصوص.