فتحي عبدالسميع يدرس «علاقة الجميلة والمقدّس»
يشتمل كتاب «الجميلة والمقدس» للشاعر المصري فتحي عبد السميع في 270 صفحة قطعاً صغيراً، منشورات «دار الهلال» على مقدمة وافية تتضمن كشفا لمفهوم المقدس وعلاقته بالكتابة التي يركز الكاتب على جوهرها الجمالي بكونه أهم الخصائص الإبداعية التي يطلق عليها الشاعر كلمة الجميلة، قائلاً: «الجميلةُ هي الكتابةُ الإبداعية سواءٌ أكانت قصيدة، أَم قصة قصيرة، أم رواية، أم مسرحية. ولا أدري سرَّ انفصالِ الأدب عن مصطلح الفنون الجميلة الذي يتم تداوله ليعبِّر عن فنونٍ مثل الموسيقي والرسم، والنحت، فمِن الشائع استخدامُ عبارةٍ مثل «الأدب والفنون الجميلة»، والحقيقةُ أن الجَمالَ هو أهم ما يميز الكتابةَ الأدبية، فلا معنى للكتابة بوصفها أدباً إنْ لم تكن جميلةً في المقام الأول، فجَمال الكتابة هو ما يحدّد هويتَها، فقصيدةٌ جميلة عن عصفورٍ أو علبةٍ فارغة في الشارع، أهم مِن قصيدة سيئة عن رمزٍ عظيم أو قيمةٍ إنسانية كبرى. وإذا كانت الكتابة عندما تتجرّد مِن الجمال تصبح كياناً تافهاً يسهل علينا طردُه مِن جنة الإبداع بلا أسفٍ مهما كانت القيمة المعرفية التي تحملها تلك الكتابة، فإن الكتابةَ التي تحوي قدراً عالياً من الجمال لا يمكن أن ننبذَها حتى لو اختلفنا مع رسالتها المعرفية، ولا يمكن أن نتجرأ ونَصِفَها بالتفاهة، فالمبدع الذي يضع عينَه علي جمال الكتابة كجوهرِ عملِه لا يمكن أن يصدر عنه نصٌّ تافه، والإنسان عموماً كلّما تَرَقّى في اكتساب ثقافة التلقّي الجمالي، ابتعدَ عن السطحية والتفاهة».
الكتاب، في ثمانية فصول، الأولُ حول علاقةَ اللغةِ بالمقدس، وعنوانه «اللغة الخلاقة والحروف المقدسة» وفيه يقف الكاتب عند اللغة بكونها قوام الكتابة الإبداعية، فاللغة هي المادة الخام التي يشكل منها المبدعُ منحوتاتِه الجمالية الحية، واللغة هي محور صراعِه الدائم، وهي وإنْ تكن موروثة، إلاّ أن واجبَه يفرض عليه تجاوزَ جانبِها الموروث، وكي يأتي بجديد لا بد من امتزاج اللغة بدمِه، لتحمل بصمتَه الخاصة، واللغةُ لا تنفصل عن تجربة المقدس، فقد ولِدت اللغة في تلك المرحلة الإنسانية البعيدة التي لم ينفصل فيها الإنسانُ عن المقدس في مظاهر حياته كلّها، كما أن الكلمةَ المنطوقة تَظهر في ثقافات العالم القديم مرادِفةً لفعل النشأة والتكوين، فالموجود الأسمى في تلك الثقافات، يبدع الموجوداتِ من خلال الكلمة، كما أن اللغة ترتبط بالمقدس من خلال النصوص الأساسية التي ترتبط بالديانات المختلفة، وهكذا وقف الكاتب مع اللغة بوصفها نشاطاً خلاّقاً، كما يقف مع «الحروفية» التي تجعل للحرف الواحد قيمةً رمزية خاصة، تبرز من خلالها علاقة المبدع بالمقدس.
في الفصل الثاني يقف الكاتب عند علاقة السحر بالكتابة الإبداعية، من ناحية، وعلاقته بالمقدس من ناحية أخرى، وهي علاقة قديمة تعود إلى زمن بعيد كان ساحر القبيلة هو نفسه كاهنَها وحكيمَها أيضاً، وعلاقتنا بالسحر، على ما يقول الكاتب، مزدوجة، فهناك وجهها الغائر في مسيرة الإنسان، متمثلاً في ديانات ومعتقدات قديمة ما زالت آثارُها موجودة حتى الآن، وهناك وجهها المرتبط بالجمال الطبيعي الذي نَصِفُه بكلمة الساحر، أو الجمال الفني الذي نصِفُه بالكلمة نفسها، على نحو ما نراه في الحديث النبوي الذي يقول: «إنَّ مِن البيان لَسحرا».
في الفصل الثالث يتناول الكاتب علاقة المبدع مع المقدس من خلال صراعه الجمالي والدلالي مع الأسطورة، فالأسطورة في أبسط تعريفاتها، بحسب الكاتب، هي حكايات الأولين المقدسة، وما زالت الأسطورة حتى تلك اللحظة تلعب دورا في حياتنا، وهي تقبع في طبقة عميقة من طبقات ثقافتنا وتدخل مِن ضمن ما تدخل إلى رحاب رؤيتنا للمقدس، على نحو يسهل علينا إدراكُه حيناً، ويعز علينا إدراكُه حيناً آخر. والمبدع بوصفه عينا حية لا تكف عن فحص محيطها والتفاعل معه، تتفاعل مع حركة تلك الطبقات العميقة في ثقافتنا، وتأخذ موقفاً منها ليس على نحو مباشر وصريح، بل في اندغامه ببنية النص كلاً، ما يفرض علينا العنايةَ بتلك البِنية حتى نصل إلى المغزى الذائب فيها.
في الفصل الرابع يتناول الكاتب علاقة الخرافة بالمقدس، والكيفية التي تظهر بها تلك العلاقة في النص المعاصر، بدءاً بتحديد الفرق بين الخرافة والأسطورة، ثم كشف مظاهر تلك العلاقة والكيفية التي يتناول بها المبدعُ المادةَ الخرافية التي يمتلئ بها واقعُنا، وكيف ينحت منها عملاً فنّياً حياً وعجيباً، وكيف يسرِّب فنيّاً موقفه من تلك المادة الخرافية.
في الفصل الخامس، يعالج الكاتب علاقة المقدس بالتصوف الشعبي تحديداً، والذي لا يعبِّر عن تجربة صوفية تماماً، بل عن أفكار صوفية جزئية وعلاقاتٍ متفاوتة بالتجربة الصوفية، على نحوِ ما نراه لدى أتباع الطرائق الصوفية المختلفة الذين يعدون بالملايين، أو لدى أعدادٍ غفيرة ترتبط بمحبة أقطاب التصوف، وتقوم بتصرفات معينة تعبيراً عن مكانتهم مثل زيارة أضرحة الأولياء، وتقديم النذور إليهم وغيرها من الأشياء التي تكشف عن التصوف الشعبي. وليس تناوله مجردَ استقصاءٍ لمثل تلك المظاهر، بل يركز على أثر التصوف الشعبي فى توليد جماليات معينة، والإفادة من تلك الجماليات لإمرار رسالة المبدع فنّياً.
الفصل السادس حول علاقة المبدع بالمقدس من خلال حكايات الجان التي تتجانس مع عالم الكتابة الإبداعية لناحية قدرتها على أن الخروج بالإنسان من عالم المادة والواقع، بكل ما فيه من معاناة، ومخاطبة عالم الروح والوجدان لديه، لافتاً إلى تجربة إبداعية تقوم على تلك الحكايات الحية في ثقافتنا الشعبية والكيفية التي تعامل فيها المبدع مع تلك الحكايات.
في الفصل السابع كلام حول الكتابة والمقدس من خلال فكرة الجنة الأولى التي عاش فيها الإنسان قبل هبوطه، وتظهر من خلال «الرعوية» كجنس شعري قديم يرتبط بالنصوص الدينية في العالم القديم، ويدين بميلاده كجنس شعري بيِّنِ القَسَمات على يد الشاعر اليوناني الإسكندري تيو كريت 310 ق. م. 250 ق. م ، ويقوم على فكرة الجنة المفقودة، وإعادة دمج الإنسان مع الطبيعة، على نحو ما تَحقَّق قبل خروج الإنسان من الجنة، كما يرتبط أسطورياً بالإله «بام» إله الرعاة، ونفتقد في الحقيقة دراسة وافية عن الرعوية في شعرنا المعاصر، رغم وجود مظاهرها الكثيرة.
في الفصل الثامن شرح لعلاقة المبدع بالمقدس من خلال الحكاية الشعبية، وكيفية استيعابها نموذجاً أسطورياً مقدساً، بعد انهيار الديانة التي كانت تمثله، وكيف يتمّ هذا الاستيعاب على نحو مراوغ وخفي، موضحاً الفَرْق بين مصطلح الحكاية الشعبية والأسطورة، ومتناولاً عددا من جماليات الكتابة السردية والكيفية التي يتحول بها الحدث العادي إلى حكاية شعبية، والشخص العابر إلى نموذج أسطوري، وعلاقة ذلك بالجماعة سواءٌ على مستوى تشكيل النص أو على مستوى دورها في أسطرة العابر.
كتاب «الجميلة والمقدس» للشاعر فتحي عبدالسميع الكتاب هو السابع في مسيرته التأليفية، له قبله «خازنة الماء» و«فراشة في الدخان» و«الخيط في يدي» و«تقطيبة المحارب» و«تمثال رملي» و«الموتى يقفزون من النافذة».