المطران سعادة مؤرخا لإهدن – زغرتا: مهد البطولات والعطاءات
د. قصي الحسين
بالإضافة إلى اعتباره، بلدة إهدن – زغرتا، مهد المارونية الكهنوتية وحاضنتها، فإنّ المطران بولس أميل سعادة، إنما يضيء، في كتابه: إهدن – زغرتا مهد البطولات والعطاءات2o18: 265ص ، على ما عرفه المسيحيون من إنشقاقات عقائدية بين المنوفيزيون اليعاقبة ، وبين الخلقيدونيون النساطرة ، فكان أن سقط للخلقيدونيون سنة 517م نحو من 315 شهيدا، مما أحرجهم، فأخرجهم، من نواحي حلب حيث نشأوا، إلى نواحي حمص وحماة. فبنى لهم الأمبراطور البيزنطي، أوّل دير لهم، على إسم مار مارون، الذي ينتمون إليه. ذكره إبن العبري في كتابه الإشراف والتنبيه، فقال: دير عظيم يعرف به شرقي حماة وشيزر، ذو بنيان عظيم. وحوله أكثر من ثلاثماية صومعة فيها رهبان . ثم كانت هجرتهم الثانية، إلى شمال لبنان، ونزلوا المنحدرات الغربية، فشهدت إهدن وبشري والحدث وتنورين والعاقورة، نزوحاً مارونياً إليها، قبل غيرها من قرى جبل لبنان، وذلك في الثلث الأول من القرن السابع الميلادي، أثناء الفتوحات العربية. إذ تابعهم المنوفيزيون، متحالفين مع الفاتحين العرب الجدد، وذلك بعد هجرتهم الأولى بمئة وخمسين عاماً، على هجرتهم من حلب. ويقول سيادة المطران سعادة، إنّ السلطان سليم، بعد انتصاره على المماليك في مرج دابق العام 1516م، أسكن عشرات العائلات من إهدن، في مدينة حلب، معيداً إليهم اعتبارهم في سورية. وذكر من هذة العائلات: دويهي، ومعوض وفرنجية واللبيان والكوسا وقطيفة وعميرة وحواء وستيتي وحبلص والجمري، ص211 . ويقول إنّ إهدن خرّجت العديد من البطاركة، من بين صفوف أبنائها مثل: البطريرك داود الإهدني، ويوحنا مخلوف وجرجس عميرة وإسطفان الدويهي. كما يسرد لنا عدداً من البطاركة من أصل إهدني، مثل البطريرك أرميا عبيد العمشيتي، وهو من عائلة عبيد الإهدنية. والبطريرك ميشال صباح في القدس، وهو من عائلة يمين الإهدنية. ويقول إنّ البلدات الواقعة في جوار إهدن، أنتبت أيضاً بطاركة كثيرين، مثل البطريرك مخائيل الرزي، والبطريرك سركيس الرزي والبطريرك يوسف الرزي، وهم من بقوفا أصلاً، وكفرحورا مولدا، والبطريرك جرجس السبعلي من بلدة سبعل، والبطريرك جبرائيل البلوزاني، من بلدة بلوزا. وتتبّع المطران سعادة أسماء الأساقفة الإهدنيين، أو من أصل إهدني. أو ممن كانوا من بلدات الجوار الإهدني. كذلك تتبّع الكهنة الذين قدّمتهم رعية إهدن – زغرتا، والعلماء الإهدنيين الذين حصّلوا العلوم العالية في روما، ثم عادوا إلى لبنان بعد بعثتهم، وأسهموا في تأسيس النهضة ببلدهم، مثل جرجس عميرة وجبرائيل أومية وإبراهيم الإهدني، ويعقوب الإهدني وأنطونيوس الصهيوني، وجبرائيل الصهيوني ومخائيل أدنيتي وبنيمين الإهدني. وكانت عائلة الدويهي، أغنى عائلات إهدن بالعلماء المبعوثين إلى روما مثل: إبراهيم الدويهي ورزق الدويهي وبطرس الدويهي. بالإضافة إلى ذلك، قدّم لنا المطران سعادة مسرداً لجميع الكهنة الذين قدّمتهم رعية إهدن – زغرتا، منذ القرن الخامس عشر، وطيلة القرون الخمسة اللاحقة. كذلك تحدث عن الإهدنيين في الرهبنات الغربية، في لبنان والخارج: مثل الرهبنة اللعازارية، والرهبنة الكبوشية والرهبنة اليسوعية والرهبنة الكرملية. ذاكراً أسماء هؤلاء الآباء الذين كان لهم دور هام في الرعية المارونية، وبين صفوف عموم الكهنة الموارنة على حدّ سواء.
وقد اعتبر المطران بولس سعادة، أنّ بلدة إهدن – زغرتا، مهد حياة الرهبنة المارونية في لبنان. فرجالاتها ساهموا في تأسيس وبناء وترميم الرهبانيات والأديرة. وقد كانوا بذلوا من مالهم ومن علمهم ومن حياتهم لأجل عمرانها الشيء الكثير. وهم أنفسهم، ومن نشأوا على أيديهم، كانوا في عداد الرجالات والأخوات الإهدنيين والإهدنيات الأوائل، ممن أسهموا في إعادة تأسيس الرهبانية المارونية الحلبية، بطابعها اللبناني، بعد الفتح العثماني وسقوط الدولة المملوكية في مرج دابق، بزمن كثير أو قليل. وذلك بعدما أصطحبهم الولاة العثمانيون إلى حلب، وأكرموهم بالسكن فيها. ثم كان لهذة الرهبنة المارونية الحلبية الإهدنية الطابع، أن تعود إلى لبنان وتنشر أعمالها في جميع أرجائه. وذكر لنا عدداً جماً من الأسماء اللامعة التي أسهم أصحابها في تأسيس إتحاد الإكليروس الإهدني، وكيف نشأت هذة الفكرة في ربوع إهدن – زغرتا، في ما بعد.
كذلك عرض لأسماء الأخوات الإهدنيات ومواقف الإهدنيين البطولية، في الدفاع عن الأرض والعرض والدين، عبر التاريخ، منذ هجرتهم الثانية من نواحي حمص وحماة، إلى إهدن وسائر بلدات جوارها، منذ العصر المملوكي، إلى عصرنا الحاضر. تحدث سيادة المطران، عن بلدة إهدن، كحاضرة ثقافية منذ زمن طويل، وإلى اليوم. وهي التي شهدت على تطوّر الحياة العلمية، لا في إهدن – زغرتا وحسب، وإنما في عموم الأراضي اللبنانية. فذكر المدارس الإهدنية في جميع مناطق لبنان، متزامنة مع إنشاء المدرسة المارونية في روما العام 1585م، فكانت من تباشيرها، مدرسة مارت مورا ومدرسة مار يعقوب، ومدرسة قبريانوس، ومدرسة مار يوسف ـ زغرتا 1695، ومدرسة حوقا 1642، التي أسّسها البطريرك يوحنا مخلوف الإهدني. بالإضافة إلى مدرسة مار سركيس وباخوس الأولى، ومدرسة مار سركيس – زغرتا الثانية، ومدرسة راهبات المحبة، ومدرسة راهبات المحبة الأنطونيات زغرتا 1946م.
وكما يتحدث المطران سعادة، عن الوجود الإهدني في حلب، فقد تحدث أيضاً عن الوجود الإهدني في الناصرة والقدس بفلسطين، منذ أيام الصليبيين، وحتى العصر العثماني. وقد قرن ذلك بالوثائق التي حصل عليها، وصوّرها لنا، وقدّمها شاهداً على همة الإهدنيين في الوصول إلى فلسطين. كذلك شهد على بسالة الأخوات الإهدنيات، وعلى الطريقة الذكية في تملك الإهدنيين لزغرتا في العصر العثماني، وعلى الكرم الذي أحاط به الإهدنيون ضيوفهم، من الحكام والأمراء والقناصل والسلاطين. فإهدن حقيقة، مهد البطولات والعطاءات.
أستاذ في الجامعة اللبنانية