دي مستورا و«تجميد النزاع» في سورية: الخلفية… والدلالات؟
العميد د. أمين محمد حطيط
في لحظة قد تكون مفاجأة للبعض، جاء المبعوث الدولي دي مستورا إلى سورية بمبادرة تدعو إلى «تجميد النزاع» بشكل محلي مجزأ يبدأ من منطقة سورية مشتعلة بنار الإرهابيين الآن ثم اختبار التجربة، فإن نجحت يتمّ الانطاق إلى منطقة أخرى حتى تنتج بيئة ملائمة في نهاية المطاف لدخول حوار وتفاوض للبحث عن حل سياسي للأزمة السورية. ومع هذا الطرح، تثور أسئلة عدة تبحث عن أجوبة لمعرفة خلفية الطرح ومآله وإمكان نجاحه وشروط هذا النجاح.
لكن قبل معالجة هذه المسائل لا بد من التذكير بأن مصطلح «تجميد النزاع» بشكل محلي، هو مصطلح جديد في إطار القانون الدولي والنزاعات المسلحة، لم يسبق استعماله مطلقاً في أي حقبة أو نزاع. وبالتالي تكون مناقشته مبنية على ما يمكن أن يتضمنه من مفاهيم وجزئيات، تصبح جزءاً لا يتجزأ من المصطلح، بحيث يُفهم المصطلح على أساسه ويطبّق بمقتضاه.
وبالمقاربة العلمية، نعتقد أن أقرب ما يكون إليه المصطلح الجديد من المصطلحات السابقة المعمول بها والمتداولة في مجال النزاعات المسلحة وفقاً لقواعد القانون الدولي، وهو مصطلح «وقف إطلاق النار»، ومصطلح «الهدنة» لكن دي مستورا تجنّب طرح أيّ من المصطلحين كمرتكز ينطلق منه إلى الحل، لأنه يعلم أن الدولة السورية ليس بمقدورها أن تقبل بهما لما فيهما من مسّ بالسيادة واعتراف واقعي بالجماعات الإرهابية، ففي وقف إطلاق النار أو الهدنة يجب أن يكون هناك تحديد لخط وقف إطلاق النار، وتحديد للقوى ولسلوكياتها عبر الخط، وضمان استمرار القوى في مواقعها على جانبي الخط، وحقها بالإمداد والتعزيز بما يمكنها من حفظ تلك المواقع. وطبعاً لا يمكن للدولة السورية أن تقبل بشيء من هذه الأمور التي تعتبر في النهاية لمصلحة الإرهابيين وتنازلاً عن حق الدولة في السيادة على أرضها لمصلحة جماعات إرهابية. لكل ذلك تجنب دي مستورا هذا المصطلح المعروف وأتى بمصطلح جديد يتوجب تحديد دلالاته.
ولأن المصطلح جديد، ولأن سورية اليوم في وضع مريح في الميدان بعد سلسلة الإنجازات الميدانية التي حصدتها خلال الأشهر الأخيرة، ولأن سورية حريصة على أمن مواطنيها وسلامتهم وسلامة ممتلكاتهم، فإن من الطبيعي أن تتلقف أية مبادرة قد يكون فيها أمل بحقن الدماء واستعادة الأمن والاستقرار إلى ربوع البلاد، ولذلك أوحت القيادة السورية باستعدادها المبدئي لدرس المبادرة وتحديد آلية تطبيقية مناسبة لها تحفظ الحقوق السورية الوطنية، وتسرع في إنهاء الأزمة التي صنعها الخارج لها ونفذها بأدوات محلية وإقليمية وبمشاركة دولية واضحة.
ويبدو مما تسرب حتى الآن أن هناك اتجاهين يحكمان مسيرة تحديد دلالات المصطلح الجديد، الاتجاه الأول وهو ما يمكن أن يكون مضمراً حتى الآن ويرى أن هذا المصطلح هو «وقف إطلاق نار» باسم جديد، ما يعني التزام الأطراف وقف الأعمال العسكرية في المنطقة والاحتفاظ بالقوى ثابتة في مواقعها يفصل بينها خط وقف إطلاق نار يعترف به الجميع الدولة من جهة والتنظيمات الإرهابية المسلحة من جهة، مع حق هذه التنظيمات بالإمداد والتعزيز في تلك المراكز طيلة فترة وقف النار من دون أن يكون للدولة السورية الحق بالتدخل بالعمليات اللوجستية تلك.
أما الاتجاه الثاني وهو ما عبرت عنه القيادة السورية لدى استقبالها دي مستورا، فينطلق من القرارين الدوليين 2170 و2178 الصادرين عن مجلس الأمن تحت الفصل السابع بهدف محاربة الإرهاب بدءاً بتجفيف مصادره، وهذا يعني وجوب تلازم وقف الدولة السورية عملياتها القتالية في المنطقة المتفق عليها للتجميد، مع وقف التحرك العسكري وأي نوع من أنواع الإمداد للجماعات الإرهابية، ما يستوجب إغلاق الحدود بوجهها. وإذا طُبّق الأمر في حلب فإنه يعني وجوب التزام تركيا إغلاق المعابر التي يستعملها الإرهابيون للإمداد لأن الأسرة الدولية كما يحلو لأميركا تسميتها، تكون مسؤولة عن تطبيق قرار تحت الفصل السابع وبالتالي تكون ملزمة وفي طليعتها أميركا أن تلزم تركيا إغلاق الحدود وقطع طرق الإمداد للإرهابيين، وإلا تكون المبادرة خدعة جديدة، تُعتمد لمصلحة الإرهابيين.
وإضافة إلى ذلك، فإن التجميد بنظر سورية لا يقتصر على المواجهات بين القوات العسكرية الشرعية والإرهابيين فحسب، بل يعني تجميد الأعمال الإرهابية التي يقوم بها الإرهابيون بحق المواطنين في الأماكن التي يوجدون فيها. ما يعني أن التجميد في الفهم السوري يجب أن يكون وقفاً للأعمال الإرهابية في المنطقة وفي أيّ اتجاه، وتجفيفاً لمصادر الإرهاب معاً.
ونعتقد أن هناك فرقاً شاسعاً بين المفهومين في المضمون، كما أن هناك تبايناً واسعاً في النتائج المترتبة على هذا الأمر، ففي حين يخفي المفهوم الأول نية بقطع الطريق على الجيش العربي السوري في سعيه إلى استعادة ما تبقى من أجزاء حلب الواقعة في يد المسلحين، ويعطي الإرهابيين فرصة إعادة تنظيم أنفسهم وتدعيم المراكز وتموينها بالسلاح والذخيرة استعداداً للمعركة المقبلة، فإننا نستنتج من الاتجاه الثاني، سعياً سورياً يمكّن الدولة من العودة إلى الأجزاء التي دخلها الإرهابيون، عودة تكون عبر مراحل أوّلها وقف القتل والتدمير، يليها تجفيف مصادر الإرهابيين بمنع أي نوع من أنواع الإمداد إليهم عدداً أو عدة وسلاحاً، وصولاً إلى إخراجهم من المنطقة خروجاً يترافق مع الحل السياسي الشامل.
ومع هذا التباين، قد نرى أن دي مستورا فتح بمبادرته الأخيرة مجالاً للمناقشة بحثاً عن حل سلمي كما يقول يبدأ بـ«تحديد معنى المصطلح الدولي الجديد» وعلى ضوء ما يتم التوصل إليه في عمليه البحث عن دلالات المصطلح يمكن القول بإمكان نجاح المبادرة أو فشلها، بخاصة أن المناورات الدولية التي عرفها المسرح السوري كثيرة وبعضها كان أكثر تعقيداً من المبادرة الحالية، ولكن سورية استطاعت عبر احترافها الدبلوماسي والسياسي المدعوم بقوة عسكرية ميدانية كفوءة استطاعت أن تفشل كل المناورات السابقة، وبالتالي لن تكون عاجزة اليوم عن تعطيل أي لغم أو فخ ينصب لها خصوصاً أنها اليوم في الإطار السياسي والإطار العسكري الميداني هي في الوضع الأفضل منذ بدء العدوان عليها، وأن المبادرة الدولية لم تطرح أصلاً بهذا الآن بهذا الشكل، لو لم تكن الكفة السورية راجحة وبشكل كبير على مختلف صعد المواجهة. فالإنجازات السورية في الميدان والسياسة هي التي أعادت الآخرين للتفكير بالعودة إلى الحل السلمي ممهداً له بوقف نار أو «تجميد نزاع» محلياً كان أو أبعد، وبالتالي لا يظننّ أحد أن سورية ستهدر في التفاوض والأطر السلمية ما حصدته في الميدان وبالوسائل العسكرية.
أستاذ في كليات الحقوق اللبنانية