سورية في العام 2019: تنتصر على آفتين وتستعيدُ ميزتين

د. وفيق إبراهيم

هذا ليس تبصيراً لمشعوذ يتلاعب بالضعف البشري أمام الغيب، فالتحليل السياسي المنطقي يستند عادة الى معطيات تنأى عن الدعاية السياسية التي تشبه هواء يتبدّدُ في الفضاء البعيد، ولا يُخلفُ أثراً، فعندما يقال إن الدولة السورية أجهضت آفتين وبيلَتين وهما الإرهاب المدعوم داخلياً وعربياً وإقليمياً ودولياً وأرغمت الدور الأميركي الضخم للعودة الى اسلوب «القيادة من الخلف».

فهذه مسائل واضحة لا تحتاج لكبير جهد للاقتناع بها.

لجهة الإرهاب، تكفي العودة الى تطوره في الساحة السورية، من حالة التمظهر بمطالب سياسية خلف متظاهرين تأثروا بمواعظ لأئمة مساجد مرتبطين بالوهابية فكراً وتمويلاً الى مرحلة «إجرامية» إرهابية لم تُفرِق في القتل بين طفل وراشد ولم تميّز في الاغتصاب بين حدثة ومراهقة وعجوز واستجلبت من اقصى الأرض في الصين وروسيا وجنوب شرق آسيا وأميركا واوروبا والشرق الأوسط العربي والاقليمي وشمال أفريقيا وأنحائها المختلفة المتطرفين المنتمين الى تنظيمات اسلامية وبمئات الآلاف، فهذه ليست اعمال تطوّع. إنها نتيجة لمشروع صادر عن جهة أميركية متمكنة جمعت بين القدرة العالمية والدراسات الأكاديمية وتورّط دول الإقليم التابعة لها بأدوار مختلفة كانت تبدو متباينة، أو هكذا أراد الأميركيون لها أن تكون مع عقيدة وهابية ترفض الآخر المختلف عنها وتدعو الى قتله، وبإشراف عسكري أميركي مباشر فتح لجحافل هذا الإرهاب الحدود السياسية مع تركيا وقطر والعراق، ولبنان لمدة قصيرة.

وإلا كيف دخل أكثر من مئة ألف إرهابي الى سورية؟ دخلوها بإشراف أميركي جدي وبرعاية كاملة من المخابرات التركية والأردنية والسعودية والقطرية والاماراتية وبما يتلاءم مع قدرات كل منها.

استمر ضغط هذه القوى في الميدان السوري منذ 2012 وحتى الآن، من دون توقف وبمشروع واحد كان يتبدّل حسب موازين القوى، لكنه ابتدأ بمحاولات إسقاط الدولة ونظامها السياسي. وعندما اصطدم بقوة الجيش العربي السوري، عرف أن الاستيلاء على الدولة مستحيل، فذهب نحو سياسة التفتيت باستيلاد دويلات للإرهاب في شرق الفرات ومناطق درعا وصولاً الى الحدود الأردنية آملين من الأتراك رعاية دويلات سورية في الشمال والشمال الغربي ودافعين الأكراد نحو دولة مستقلة شرق الفرات.

ماذا كانت النتيجة؟

أطاح الجيش العربي السوري بكل الاحلام الأميركية في وسط البلاد وجنوبها وبعض أنحاء الشمال فدمّر مواقع الإرهاب وخطوط حركته العسكرية والاقتصادية خانقاً مشروعه السياسي بالخلافة الإسلامية المزعومة الذي كان يتصدر المشاهد الكبرى في الإعلام العالمي والبرهان موجود في تحرير 75 من مساحة سورية، وهذه المعلومات التي لا لبس فيها إنما جرى إنجازها على الرغم من الدعم الذي يتلقاه هذا الإرهاب من تواطؤ أميركي مكشوف كان يبيح له نقل النفط الى تركيا وبعض أنحاء العراق حين كان بيد الإرهابيين والأردن ولبنان سامحاً له بجلب السلاح والإرهابيين علناً، وكان يساعده حتى بقصف مواقع للجيش السوري زاعماً أن القصف سببه خطأ تقني.

ونتيجة لتراجع دور الإرهاب مع تعذر الاستمرار بالمراهنة الكاملة على الكرد، وذلك لاعادة جذب تركيا الى المحور الأميركي، اعلن الرئيس الأميركي ترامب عن سحب قوات بلاده من سورية في غضون مدة أقصاها ثلاثة اشهر، وكي يعاود تفجير الازمة السورية بآليات جديدة دعا تركيا للدخول الى شرق الفرات لتطهيره من الإرهاب موافقاً في الوقت نفسه على اهداء السلاح الأميركي في هذه المنطقة للأكراد، وذلك في حركة أميركية مكشوفة لتوفير وقود للمعارك المقبلة بين أكراد وأتراك وداعش والدولة السورية وتحالفاتها.

يبدو أن سورية نجحت ببراعة في تدمير الإرهاب على مستويي المشروع والبنية العسكرية.

وفرضت على الأميركيين مواكبة تدمير هذا الإرهاب بتراجعٍ مماثلٍ مع الاتجاه الى تطبيق نظرية «القيادة من الخلف» والتعاون بالقصف الجوي مع وسائلها الجديدة وهي تركيا.

ما فعلته سورية لا تستطيع أي دولة في الشرق الأوسط أن تفعل مثيلاً له، خصوصاً على مستوى وحدة شعبها وصلابة مؤسساتها السياسية وبسالة جيشها وحسن تدبّرها للتحالفات الوازنة والآمنة.

وهذا ما يضعها في خانة الدول المرشحة بقوة لتحقيق سيادتها الكاملة في 2019 استناداً إلى ما أنجزته في مرحلة 2011 2018 بالإضافة الى قدرتها المرتقبة على اداء دور عربي وبالتالي إقليمي.

فهناك اليوم في المنطقة مشهدان في المشرق العربي: انتصار سورية وهزيمة السعودية والإمارات وانكفاء مصر الى أسوأ المراحل في تاريخها، الى جانب قطر المحاصرة واليمن الجريح والعراق الباحث بجهد عن وحدته الداخلية.

ألا تفسر هذه المشاهد عودة الأعراب الى دمشق يستظلون بها من الأخطار الإقليمية والدولية، فآل سعود يعانون من انهيار أدوارهم مرعوبين من المخاطر الداخلية، وكذلك آل زايد، أما آل خليفة في البحرين فيعرفون ان مساحة جزيرتهم التي لا تتعدّى 500 كيلومتر مربع تحتاج الى ست قواعد عسكرية أجنبية لحمايتها، وهي قواعد أميركية فرنسية وبريطانية وسعودية وقوات مجلس التعاون ومصر، وهناك قاعدة إسرائيلية سرية لم يُكشف أمرها بعد.

ولأن هذه المعطيات هي معلومات يعرفها الجميع وليست مجرد اتهامات، فإن استرجاع سورية لكامل سيادتها إنما يتواكب مع استعادتها دورها العربي وتالياً الإقليمي، فالانسحاب الأميركي في سورية وأفغانستان وإصرارها على وقف حرب اليمن ليست إلا مؤشرات تضع بلدان الشرق العربي أمام حقيقة الدور السوري الإقليمي المطلوب بقوة في ميدان ساقط وفارغ سياسياً وعسكرياً ومتآمر إسرائيلياً.

وهكذا تنحو سورية الى استرداد محوريتها على وقع صراع جديد مع البديل الأميركي للإرهاب وهو مشروع أردوغان لإعادة انتاج الدولة العثمانية ولن يكون أقوى من المشروع الإرهابي الذي كان يضم في حلقاته المتنوّعة أردوغان وشركاه والمعلم الأميركي على السواء.

اترك تعليقاً

Back to top button