سورية أمام معادلات الطبائع الجاهلية

د. رائد المصري

بهدوء… فالعرب اليوم أمام مرحلة تاريخية قد تمكّنهم من تحقيق إنجازات تحريرية على مستوى الأمة وفي الإصلاحات الداخلية لدولها، ربّما لن تتكرّر بعد قرنين من الزمن، فلن تنفع مع بعض القادة السياسيين في سلطاتهم غير المحدودة الارتجال وسرعة الغضب والانفعال كسِمات وتكرار للعنف الجاهلي الذي انطبع عليه العرب منذ ما قبل الإسلام، ولا زالت متأصّلة في سلوكياتهم وبما يتعلّق بالقرارات المصيرية في زمننا الحالي من دون أن يخرجوا من شرنقة الانغلاق والتفرّد والاستحواذ والاستئثار والاحتكار بالحكم وبالسلطات. إنها سوسيولوجيا الحقد والكراهية والعنصرية في بلاد كان قد أرسى فيها قبل أكثر من 4200 عام «سرجون الأكادي» أوّل نظام سياسي علماني بصيغة الحكم المدنية…

من دون التفلسف والتملّق في قياس البعد والدور الذي تلعبه سورية في المنطقة العربية وفي الإقليم ككلّ، ومن خلال عمليات التجريب والقياس التي مارسها بعض حكّام العرب لتعطيل هذا الدّور في المواجهة على المستويات كافة منها العلمية والثقافية والدينية والسياسية وحتى العسكرية، أن وجدوا أنفسهم ودولهم ومجتمعاتهم من دون ظهير أو سند، فانكشفت عوراتهم التاريخية التي سترتها سورية من خلال دورها وحضورها، وسقطت مشاريعهم المشبوهة أو تلك التي شبّه لهم بها في مسار الصراع مع المستعمرين الغربيين والصهاينة، فوجد العرب أنفسهم عراة وحفاة من دون سورية، يستفرد بهم ترامب في الصفقات العسكرية والابتزازات المالية، ويحتضنهم نتنياهو لتوسيع دائرة الجذب بهم وحول «إسرائيل» التي أصابها الانعزال والعزل، نتيجة العنصرية الفاقعة التي مارسها ومارسها معه مستوطنو «إسرائيل» المقترعون دوماً للحرب ولسياسات التطرّف، مستفيدين ومستغلّين انشغال سورية بالحرب النازفة على دولتها وشعبها لرسم معادلات وقواعد اشتباك تعوّم الكيان الصهيوني وتتقدّم به الى المسرح الإقليمي في صياغة لمشروع تكفيري تدميري بحوامل جاهلية قد أتقن العرب فنّها وفنون اللّهو والمجون بها ومعها…

بعض العرب في الخليج يبرّرون هرولتهم السّريعة صوب سورية المنتصرة حكماً، لمنع وقوعها بأحضان إيران كما يدّعون، في حين تمنعهم مكابرتهم وعنجهياتهم من الاعتراف بأنّه ربّما يفسح في المجال لهم ومن الباب السوري إعادة إحياء دور صغير للسعودية تشكّل دمشق الظهير والسّند مقابل قوتين إقليميتين ونعني بهما تركيا وإيران، في حين تتكفّل مصر السّيسي بإعادة ومراقبة وضبط قواعد الاشتباك الجديدة للعدو الصهيوني في دول الطوق، وهذا أقصى ما يمكن لمصر أن تعمل عليه في الإقليم، لأنّ من يربط ويرهن اقتصاده وقوّته الحيوية الناعمة بسياسات الرّيع المالي والمساعدات وبشروط البنك الدولي لا يمكن أن يرسم له دور أبعد من ذلك…

كان ينتظًر من لبنان أن يتقدّم صفّ المسهّلين والممهّدين لعودة السلام إلى سورية ولعودة سورية إلى المحيط الطبيعي العربي، ومن بوابة بيروت، لكنّك لا تستطيع المراهنة على بلد طالما شكّل الدور الوظيفي لمشاريع الغرب الاستعمارية ومشاريع العرب الجاهلية، وهو المحكوم بتشابك مصالح الطوائف الريعية المرتبطة بالخارج، وبدلاً من تسهيل الحضور والدور السوري الفاعل من المنصّة اللبنانية، نراهم يمهّدون ويسهّلون أعمال البنك الدولي وأدواته الناهبة لسرقة الشعب والأملاك العامة لبيعها، ورهن ما تبقّى من مشروعات عامة خدمة لمنصب أو موقع سياسي يريدون إعادة إحيائه وتجديده، بعدما تبعثرت أوراق الإقليم منذ انطلاقة صفارة الحرب على دمشق…

تكبيل الاندفاعة الأميركية الاستعمارية من قبل محور المقاومة في المنطقة أفقد واشنطن بقيادة ترامب رسم الاستراتيجيات الطويلة الأمد، وجعلها تنحو صوب التكتيكات والنّقلات السياسية والاستثمارية والابتزازية السريعة التي تحقّق ربحاً صافياً وخالصاً لجيبه، وهو ما تلقّفه بعض العرب بوضوح اليوم، ويريدون إعادة الاعتبار في رسم سياساتهم التي تعوّض شيئاً من كرامة الدول وحقّ الشعوب الذي أهدره حكّامهم عند قدمي أميركا ترامب ونتنياهو من دون مقابل، في حين أنّ الفرصة باتت متاحة لإعادة تجديد الخطاب السياسي والكفّ عن مصادرة الرأي الآخر وتنظيم استفتاءات وإجراء انتخابات ديمقراطية تشارك فيها الناس بصناعة السياسة والنّخب، وكذلك الكفّ عن الهرولة أمام المشاريع الأميركية وتعويض النقص الذاتي أمام الغرب و«إسرائيل» في القدرة والقوة والدور والحضور، وهي أسس لمواد فلسفية في علم السياسة وعلم الاجتماع كذلك لدى سورية ومحور المقاومة في كيفية إخضاع المستعمرين بالصّمود والثّبات والتصدّي للمشاريع المشبوهة…

عودوا إلى دمشق ليس من أجل العودة بل لأجل تعلّم الدروس في الوطنية والكفاح وفي صياغة وبلورة العمل العربي المشترك ذي الطابع القومي والتقدّمي والعلماني في بناء الدول وترك الطبائع الجاهلية التي تحكم انفعالاتكم في كلّ يومياتكم المشؤومة…

أستاذ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى