الاقتصاد اللبناني ما له وما عليه… الهدر والفساد معضلة لبنان الدائمة
لندن ـ د. محمد حيدر
لا يختلف أحد من الاقتصاديين أو غيرهم من أصحاب الاختصاص المتعلق بالاقتصاد أو المالية اللبنانية أنّ الاقتصاد اللبناني هو اقتصاد خدمات بالدرجة الأولى وريعي من حيث مالية الدولة، ويشكل قطاع الخدمات فيه نسبة عالية من الدخل القومي أو الناتج المحلي.
ومن المتفق عليه أيضاً أنّ اقتصاد لبنان ليس اقتصاداً قوياً منيعاً لكنه، في الوقت عينه، ليس اقتصاداً هشاً وكما استطاع اللبناني التأقلم في كثير من الأزمات استطاع أيضاً أن يتماشى مع هذه الظروف وتقلباتها وأن يمشي بلبنان بخطى حثيثة متجاوزاً كثيراً من الصعاب والأزمات التي لم تستطع كثير من الدول النامية والمتقدمه أن تعبرها من غير أن يكون الثمن غالياً.
ولا يعني هذا أنّ لبنان لم يدفع ثمناً لضعفه الاقتصادي فاتورة كبيرة بل دفع أكثر من طاقته وساعده على ذلك الكثير من المساعدات الدولية والإقليمية من الدول العربية بشكل خاص، وإنْ كان بعضها متواضعاً أحياناً، لا بل هناك دول قدّمت للبنان أكثر مما يمكن أن نتصوّره ولا ينسى لبنان لهم هذه المساعدات التي قدّموها في أوقات أزماته.
من الأثمان الغالية التي دفعها لبنان هي خسائر الحرب الأهلية التي استمرت لنحو 30 عاماً ولا تزال آثارها وتداعياتها إلى يومنا هذا، إضافة إلى التدمير الذي أحدثته الاعتداءات «الإسرائيلية» المتكرّرة وكان آخرها عدوان تموز 2006.
وانطلاقاً يمكن أن نقول بكلّ ثقة إنّ الاقتصاد اللبناني لديه من المناعة ما يمكن أن يحميه تماماً كما استطاع اللبنانيون أن يعبروا أنفاق الأزمات المتتالية عليه وكذلك اقتصاده وإدارة الاقتصاد بما لدى لبنان من مقدرات، ناهيك عن الشوائب الداخليه في جهاز الإدارة العامة التي بدأت تشكل عبئاً مالياً على كاهل الدولة والشعب اللبناني بسبب الفساد والهدر وعدم الشفافية وقلة الخدمات ونهب ثروات المرافق العامة من قبل سياسيين متنفذين وموظفين في الإدارات العامة وعدد لا بأس فيه من المتنفذين الاستثماريين أو التجار في مختلف قطاعات خدمات الدولة.
يمرّ لبنان اليوم بأزمة حكومية غير عادية طال أمدها بشكل غير اعتيادي عن نمط تشكيل الحكومات السابقة ولعلّ تأخير تشكيل هذه الحكومة بدأ يرخي بظلاله على كثير من القطاعات الاقتصادية العامة والخاصة، وهناك أيضاً من يحاول جرّ لبنان ومقوّماته الاقتصادية والمالية إلى أتون اللعبة السياسية من دون مبرّر، عوضاً عن تحييد هذا الاقتصاد كي لا يكون فريسة التجاذبات السياسية ويصبح لبنان ومقوماته ضحية هذه الانجرارات والتجاذبات.
مؤسّسات التصنيف
ليس مستغرباً أن تقوم بعض مؤسّسات التصنيف الدولي للوضع المالي في لبنان أن تخفض من درجة الثقة فيه من وضع مستقرّ إلى وضع غير مستقرّ بمعنى أنّ ظلال الأزمة الحكومية هي السبب الأساسي الذي جعل مؤسسة «مودي» للتصنيف الدولي إلى ذلك. ولكن ليس بالضرورة أن يكون قرار «مودي» مؤشراً إلى الأوضاع الاقتصادية في لبنان لكنه يلحظ بشكل رئيسي حالة عدم الاستقرار التي تجعل المستثمرين في حالة من عدم اليقين بالنسبة إلى مستقبل الاستثمار في مكان ما.
كثر الحديث مؤخراً عن التشكيك في قدرة الاقتصاد اللبناني على تجاوز الأزمة الحالية من دون تقديم مبرّرات علمية أو إظهار مواطن الخطر بشكل دقيق وتوصيفي بالمعنى الاقتصادي. كثرت الندوات والنداءات حول هذا الموضوع وتناول بعض السياسيين والهواة من المتأقصدين أو عابري السبيل على الأمور المالية والاقتصادية لبنان بمقوماته الأساسية، محذرين من خطورة الوضع منذرين بأنّ هذا العام هو عام الانتحار الاقتصادي اللبناني وتدهور قيمة الليرة وما شابه من صيحات لا أساس لها من الواقع اللبناني ولا حتى في العلم الاقتصادي والمالي.
وهناك من يحذر أيضاً من أنّ الليرة اللبنانية هي على شفا الانهيار أو بدأت تغرق في رمال متحركة سياسية وغير سياسية ضاربين بعرض الحائط تقارير البنك المركزي وكثير من المؤسسات الدولية أو التصنيفات المصرفية العالمية للقطاع المالي اللبناني، خصوصاً المصارف، وبدأت بعض التكتلات في ما يسمّى بالهيئات الاقتصادية بالتحرك في هذا الاتجاه، معتبرة أنّ الأوضاع الاقتصادية والمالية تجرف البلد إلى نهاية لا تحمد عقباها، علماً أنّ الهيئات الاقتصادية هي عصب الاقتصاد اللبناني وهي الماكينة التي يعدّ حيّز منها جزءاً لا يتجزأ من قوام الاقتصاد اللبناني وهي صاحبة العجلة المحركة في الاقتصاد اللبناني وإنتاجه وخدماته، إن صحّ التعبير. السؤال: لم ارتفعت كلّ هذه الأصوات بالتحذير، علماً أنّ المقاييس العلمية للأداء الاقتصادي لم تلحظ أيّ تغيّر في الوضع عمّا كان عليه منذ عشرات السنوات بل وفي كثير من الأحيان كان أفضل وأقلّ ضرراً من الفساد الاقتصادي والنهب والفساد وتسرّب المال العام بطرق غير معروفة، إلى غير ذلك من شوائب المجتمع السياسي والمالي في لبنان، حتى أنّ قطاعات اقتصادية خدماتية كثيرة استطاعت أن تحقق مستويات عالية جداً من الأداء المالي وبالتالي تدفق الأموال على القطاع المصرفي وتحسين وضعية مصرف لبنان بشكل عام.
لتأكيد هذا التوجه وبطلان التوجهات الأخرى التي أخذت الاقتصاد اللبناني والليرة وأداءها إلى وحول ومستنقعات، سنعرض ما للاقتصاد اللبناني وما عليه حتى تتبيّن الصورة بشكل أوضح للجميع من دون مواربة أو تحييد للوضع.
مما لا شك فيه أنّ البنك الدولي وصندوق النقد أصدرا توصيات واضحة بضرورة إجراء إصلاحات اقتصادية وإجراء عمليات إعادة هيكلة تهدف إلى خفض الدين العام نسبة للدخل الوطني. وكانت تقارير المؤسّسات النقدية العالمية واضحة جداً في ما يتعلق بوضع الليرة اللبنانية وسلامة الوضع المصرفي في لبنان، وجاء مؤتمر «سيدر» ليعزّز هذا الاتجاه ويقرّ بضرورة هذه الإصلاحات، حيث شدّد المانحون على ضرورة التزام لبنان بحزمة الإجراءات والاستثمارات الرأسمالية.
مؤتمر «سيدر»
ويُلاحظ أنّ قضايا التطور والنمو والعمالة كانت عناوين أساسية لمؤتمر «سيدر» الذي منح لبنان حوالي 12 مليار دولار تقريباً كي ينفقها لبنان على مشاريع تعدّ من أهمّ المشاريع التي يمكن أن تعيد الحياة إلى لبنان.
وإذا كان النهوض الاقتصادي في لبنان سيعوّل على المبلغ الذي سيحصل عليه لبنان من هذا المؤتمر فمن الضروري أن نفهم أنه يحتمل أن تكون هذه هي الخطوة الأخيرة التي يمكن أن تنقذ لبنان من حالة الجمود الاقتصادي وحالة عدم الاستقرار والتراجع في الخدمات التي تعدّ من أهمّ وأبسط الخدمات التي يمكن أن تقدّم لمجتمع من المجتمعات النامية أو حتى التي تعدّ في طور النمو.
ومما لا شك فيه أنّ لبنان يواجه عدداً من التحديات المحلية والإقليمية وحتى الدولية، علماً أنّ دوره المالي والاقتصادي على المستوى الدولي يبقى محدوداً بحجم مشاركاته المالية أو المصرفية ليس أكثر. ولعلّ أهمّ التحديات مرهون بالإرادة السياسية في مشروع الإصلاح وإيجاد حلول للشعب اللبناني لا تحليل اقتصاده والتشدُّق بمعرفة المشكلة لذلك من البديهي لمن يعتقد أنه خبير في الاقتصاد اللبناني أن يوضح المشكلة ويشخّصها ويقدّم حلولاً اقتصادية، بدلاً من نكء الجرح. ولا شك أنّ ارتفاع عدد المسافرين إلى لبنان يدحض رواية تراجع عدد السياح، إذ تدلّ المؤشرات على ارتفاع عدد القادمين إلى لبنان بحوالي سبعة في المئة.
يجب الانتباه إلى تراجع حجم المناولة في ميناء بيروت وعمليات الهدر والتسرب الكبير من الأموال التي يمكن أن تُجنى من مرافق حيوية للاقتصاد اللبناني، إضافة إلى عدم قدرة هذه المرافق على متابعة تطورات السوق وعدم الاستثمار في تنميتها حتى تتمكن من تسريع عمليات التخليص الجمركي إذ بات من الضروري أن يكون هناك توسع في مرفأ بيروت باتجاه البحر، عوضاً عن توسُّعات في مناطق اليابسة والتي تعدّ محدودة نسبياً، أو تأهيل عدد آخر من الموانئ الموجودة على الشاطئ اللبناني من دون أن ننسى بعض الصفقات المشبوهة في مناطق قريبة من الميناء لتحجيمه واستفاده عدد من السياسيين اللبنانيين من مشاريع في القطاع نفسه في بلدان عربية أخرى مثل مصر وغيرها.
يتوقع البنك الدولي وعدد من دوائر التنمية العالمية كصندوق النقد وغيره أن تصل نسبة النمو الاقتصادي في العام الحالي إلى حوالي 1.5 في المئة عوضاً عن 2 في المئة كما كان متوقعاً من قبل. لكن يلحظ أنّ تكهُّنات البنك الدولي وصندوق النقد للنمو الاقتصادي تستند على عدد واسع من المؤشرات الاقتصادية والمالية والسياسية بعيداً عن التوجهات الخاصة أو التحليلات الظرفية أحياناً أو القطاعية.
ويلحظ عدد من التقارير الاقتصادية التي تهتمّ بالشأن الاقتصادي اللبناني وتطوّر أدائه أنّ قطاع العقارات في لبنان شهد جموداً ملحوظاً وتراجعاً بنسبة 3.4 في المئة على الأقلّ في الأشهر الثمانية الأولى من العام الماضي، مقارنة مع الفترة نفسها من العام المنصرم.
يمكن أن يكون الاقتصاد اللبناني يمرّ بنوع من الجمود حالياً، لكنّ هذا لا يشكل معضلة اقتصادية لأنّ سببه سياسي محض، بينما يتميّز قطاع المصارف بديناميكية عالية وبارتفاع مشهود له في مستوى أدائه، إنْ لجهة الودائع واستخدامها أو لجهة توسُّع العمليات المصرفية في ظلّ نمو متواضع للعمليات المالية في سوق الأسهم والتي لم تشهد أيّ تطوّر ملحوظ في أدائها منذ إعادة تفعيلها بعد الحرب الأهلية.
وضع الليرة
أما الليرة اللبنانية فقد شهدت تميّزاً ملحوظاً طيلة الفترات السابقة ويعود ذلك إلى قدرة البنك المركزي على الحفاظ على توازن بين القدرات المصرفية والطلب على الليرة والاحتياطي الموجود لديه من العملات الأجنبية، إضافة إلى ما تحتويه المؤسّسات المالية والمصرفية الأخرى لتلبية حاجة السوق.
وبناء على تقارير أصدرها البنك المركزي وجمعية المصارف في لبنان، فإنّ لدى مصرف لبنان احتياطياً كبيراً من التغطية الذهبية والعملات الصعبة تقدّر قيمتها بأكثر من11 بليون دولار من السبائك الذهبية، إضافة إلى حوالي 43,6 مليار من العملات الصعبة، بينما يسجل معدل الملاءة المالية في المصارف أكثر من 15 في المئة ويعتبر هذا المعدل مرتفعاً جداً في الأسواق المتقدّمة أو النامية اقتصادياً، ما يدلّ على قدرة البنوك على الوفاء بالتزاماتها المالية الأمر الذي يدعم وضع الليرة واستقرارها.
إنّ ما يعزّز قدرات البنوك في لبنان هو استمرار تدفق الأموال من ودائع واستثمارات جعلتها تحقق نمواً نسبته نحو 7 في المئة على قيمة الأصول الموجودة فيها لتصل قيمتها إلى أكثر من 258 مليار دولار أيّ بزيادة حوالي 6.5 مليارعن قيمة الأصول الموجودة عام 2017. وتبلغ نسبة السيولة في الودائع المصرفية في لبنان حوالي 38.8 في المئة من مجموع الودائع، ما يجعل البنوك اللبنانية في وضع جيد لجهة الالتزامات المالية وقدرة القطاع المصرفي على الوفاء بالتزاماته المالية. وتشير التقارير إلى أنّ معدل الملاءة المالية في المصارف، والبالغ أكثر من 15 في المئة، يعتبر جيداً جداً في الأسواق المتقدمة أو البلدان النامية اقتصادياً.
ومن المؤشرات الأخرى في القطاع المصرفي استمرار فعالية الحركة المصرفية حيث بلغت قيمة الشيكات المتبادلة بين عملاء المصارف أكثر من 61 مليار دولار في هذا العام مقابل 61.9 مليار العام الماضي، وبلغ معدل قيمة الشيكات المتداولة حوالي 5600 بينما كان في العام الماضي نحو 5200 تقريباً، وبلغت نسبة الشيكات المرتجعة نحو عشرة في المئة وكانت نسبتها أعلى من العام السابق.
القطاع المصرفي
وتشير تقارير اتحاد المصارف العربية إلى أنّ الوضع المصرفي في لبنان جيد جداً حيث احتلّ لبنان المرتبة الثالثة بين القطاعات المصرفية للدول غير النفطية إذ يستحوذ على نحو 7 في المئة من إجمالي موجودات القطاع المصرفي العربي، و8 في المئة من ودائعه.
وتشير تقارير البنوك إلى أنّ القطاع المصرفي استطاع أن يحقق أرباحاً عالية جداً. إذ حققت البنوك أرباحاً صافية تجاوزت نسبتها 8.5 في المئة على أساس سنوي في الفصل الأول من العام 2018، على الرغم من الظروف التشغيلية الصعبة في عدد من القطاعات، الاقتصادية والخدمية منها على وجه الخصوص، وعدم قدرة الدولة على تحصيل الضرائب وتهرُّب الكثير من المؤسّسات الخاصة من دفع الضريبة والاحتيال على الدولة في حساباتها لدرجه أنّ عدداً من البنوك لا يصرّح عن واقع عملياته والأرباح التي يحققها في ظلّ توسّع الفروع في عدد من المناطق الأمر الذي يثير الشك والريبة حول حقيقة الحسابات التي تقدّم للدوائر الضريبية.
المالية العامة والفساد
ليس هناك أسوأ من أداء الدوائر الحكومية اللبنانية على مدى سنوات الحرب إلى يومِنا هذا. فهناك غموض يكتنف كافة جوانب أداء الحكومات المتتابعة والوزارت وماليتها لدرجة أنّه وطيلة السنوات الماضية لم تقدّم الحكومات المتتالية أيّ جردة حساب عن كيفية إنفاق الموازانات وهذا أمر لم يحدث في تاريخ الحكومات في العالم على الإطلاق. وكان البنك الدولي وصندوق النقد ومؤسّسات الإقراض والتصنيف الائتماني العالمية حذروا لبنان من استمرار هذه الوتيرة من الإهمال والفساد الذي يعمّ المؤسسات وعدم اكتراث الحكومات المتتالية لهذا الأمر.
وليس من المعقول أن تبقى المالية العامة في دائرة الفلتان والغموض والنهب والسرقات في ظلّ غياب كامل للحسابات وتقديمها للشعب اللبناني وللمؤسّسات الدولية كي تبقى ثقتها بالاقتصاد اللبناني. فمنذ العام 2005 وحتى 2017 لم تقدّم وزارة المالية مغارة بابا السنيورة أيّ حساب عن السنوات الماضية إضافة إلى افتعال حريق في وزارة المالية في الملفات قبل استلام الوزارة من قبل فريق سياسي آخر في الدولة، الأمر الذي يزيد الشبهات حول من افتعل هذا الحريق ليطمس جرائم مالية ارتكبها كبار المسؤولين وهروبهم من الرقابة والحساب القضائي بسبب نهب مليارات الدولارات. فكيف يمكن أن يثق العالم بدولة لا تقدّم حسابات لبرلمانها ولا تناقش حكوماتها كيف صرفت أموال الشعب ولماذا تردّت الخدمات، في حال وجدت، ولماذا الهدر في ملفات كثيرة أهمّها ملف الكهرباء الذي يكلف الشعب اللبناني أكثر من مليار دولار سنوياً من مالية الدولة التي لا تزال تصرّ على أنّ عقود الكهرباء للبواخر أمر مريح للمالية بينما يتمّ نهب الخزينة بحجته.
وقياساً على ملف الكهربا هناك ملفات الهاتف والماء والفيول وشركة «ميدل إيست» والمرافق المالية كالموانئ والجمارك وغيرها من الملفات التي يطول الحديث عنها.
والمقلق أيضاً أنّ الدولة تعضّ على الجرح وتستنزفه في الوقت نفسه وتلحس المبرد من جهة أخرى. وهناك تحوّل في المالية العامة لتمويلها من القروض الداخلية والخارجية من خلال سندات الخزينة التي أرهقت الدولة والخزينة لصالح المصارف وعدد من المتنفذين من أصحاب رؤوس الأموال في لبنان وخارجه ليسجل لبنان أكبر ظاهرة تمويل موازنته عبر الاقتراض ليتحوّل تدريجياً إلى جيوب المواطنين من خلال فرض عدد من الضرائب على الخدمات متل الضريبة على القيمة المضافة والتي فرضها المشرّع من دون دراسة وبشكل عشوائي على كافة الخدمات، علماً أنها تفرض فقط على بعض الخدمات التي تزداد قيمتها الاستثمارية وقيمة البيع منها لتوضع على القيمة التي أضيفت إلى السلعة بعد تصنيعها، أيّ في عملية يسودها الغبن عندما كان الرئيس فؤاد السنيورة وزيراً للمالية.
وقد تضاعفت الضريبة العامة على المواطن اللبناني بعد هذا التحوّل لتصل حالياً إلى أكثر من 18.6 في المئة من حجم النفقات لتتضاعف وتصل إلى 33.4 في المئة من حجم النفقات العامة. ويضاف إلى ذلك ارتفاع تحويلات الخزينة إلى شركة كهرباء لبنان لتصل إلى نحو 44.1 في المئة ليفاقم عجز الموازنة حالياً أكثر من 4.8 مليار سنوياً فيما تبلغ قيمة الموازنة للعام 2018 نحو 15.4 مليار كنفقات، بينما لا تشكل الإيرادات أكثر من 12.4 مليار أي بعجز نحو 3.4 مليار وهو رقم مغاير لأرقام وزارة المالية أحياناً بفارق مليار دولار.
وفيما تشير تقارير وزارة المالية إلى انخفاض العجز خلال العام 2018 عن موازنة العام 2017 بنحو 145 مليون دولار لكنّ المعضلة الأساسية أنّ معظم واردات الدولة تذهب إلى خدمة الدين العام وليس للتخلص منه، إضافة إلى المزيد من الاقتراض الخارجي بالدولار ما يراكم فوائد أكثر من قدرة وطاقة الدخل الوطني وإيرادات الدولة على سدّ هذا العجز.
ومن الواضح جداً أنّ هناك أطرافاً سياسية لبنانية هي المستفيدة من هذا الإفلات والانفلات والانفلاش في المالية العامة وقد عجزت الحكومات المتعاقبة عن إيجاد حلول جذرية لهذه المشكلة التي بدأت تلقي بظلالها على الاقتصاد اللبناني بشكل عام، وسط سيطرة واضحة للهيئات الاقتصادية المستفيدة بشكل أساسي من هذا الترهّل في الأداء الحكومي على المستوى الضريبي وجمع الضرائب من الشركات والمصارف التي لم تعد تشكل أيّ نسبة عالية من واردات الدولة فيما تعدّ هي القطاع الحيوي الأكبر في لبنان ولا تستطيع أن تساهم في ماليته بينما هي المستفيد الوحيد من احتكارها لكثير من الخدمات والقطاعات الإنتاجية لكنها تتهرّب من الضرائب للدولة، وإلا بماذا يفسّر هذا الانفلات والانفلاش الكبير في ثروات الكثير من اللبنانيين بشكل غامض؟
يضاف إلى ذلك مدّ كثير من السياسيين والمتنفذين اللبنانيين في المناطق التي تقع تحت سيطرتهم السياسية بالاستيلاء على الأراضي الأميرية والمشاع فالشاطئ اللبناني أصبح مرهوناً للقراصنة السياسيين الذين استولوا أيضاً على الأملاك البحرية والداخلية من دون حسيب أو رقيب علماً أنّ هذه الأملاك هي للشعب اللبناني ولا يمكن التفريط بها ولم يعد هناك أيّ شاطئ لبناني رملي أو صخري إلا وامتدّت أيدي السياسيين والمتنفذين إليه لبناء مشاريع سياحية تحقق لهم أرباحاً طائلة ويحتجّون عند الدولة لعدم أداء هذه المؤسّسات بشكل جيد ولا تضع الدولة يدها عليها لأنّ هذه الملفات أصبحت حرجة لكثير من السياسيين وأبنائهم من كلّ الطوائف والأطياف السياسية.
ومن القطاعات التي تتخلى عنها الدولة والتي تحقق لها أرباحاً هائلة هي قطاع الاتصالات والهاتف الخليوي والسؤال: لماذا تسكت الدولة عن هذه الترتيبات بعدما تقدّمت بمشروع ما يسمّى «بي أو تي» شراء وتشغيل وتحويل . ولماذا تتخلى عن مصادر وارداتها وعن تقديم الخدمات للبنانيين وتتركها عرضة للنهب والسرقة حيث يتمّ تمويل السرقات من ضرائب تفرض على المواطن بشكل غير قانوني وغير عادل. لماذا تتخلى الدولة عن قطاع كالخليوي يحقق سنوياً ما مقدار 1.5 مليار دولار ويشغل آلاف الموظفين وتتركه لشركتين لا يمكن أن ينافسهما أحد في العالم بينما تعدّ خدمة الخليوي في لبنان الأغلى بين دول العالم، أيّ احتكار بامتياز في دولة نظامها الاقتصادي يفترض أن يكون حراً تنافسياً بامتياز؟ وأين تذهب ضرائب هذه الشركات وكيف يتمّ استخدام هذه الضرائب غير المعروفة لدى الشعب اللبناني؟ وكيف يمكن لهذه الشركات ادّعاء أنها لا تحقق أرباحاً كافية بينما يلاحظ ارتفاع عدد المشتركين فيها من 3.76 ملايين إلى 4.27 ملايين مشترك؟
الدين العام
لعلّ الأكثر إحراجاً في مالية الدولة هو نمو الدين العام الذي بات يشكل أزمة حقيقية ووجعاً دائماً في خاصرة النمو الاقتصادي وترتيب الأولويات لمعالجة الأزمة الاقتصادية. وقد كان حجم الدين العام في لبنان خلال العام 1993 حوالى 4.6 مليار دولار، ليرتفع إلى 18.6 مليار في العام 1998، وإلى 38.6 مليار في العام 2006 ليبلغ 55.7 مليار دولار في العام 2012، وهو يقدّر اليوم بأكثر من 63.5 مليار دولار. والأمر المحرج في ملف الديون أنّ الدين الداخلي دفع الأمور إلى ما هي عليه الآن، إضافة إلى ديون الخارج بالدولار، ما يجعل أزمة الدين العام أكثر تعقيداً وتحتاج إلى معالجة مزدوجة، حيث تتشابه أزمة لبنان مع أزمات بعض الدول الأوروبية مثل ديون إسبانيا الداخلية وديون البرتغال الخارجية أو تجمعهما معاً مثل أزمة ديون إيرلندا أو اليونان. ومن أبرز مشاكل الدين استمرار رفع أسعار الفائدة على سندات الخزينة بالليرة اللبنانية والدولار إلى معدلات تفوق معدلات الإقراض في الخارج وهذا ما يجعل الربح السريع من تجارة سندات الخزانة أمراً سهلاً للغير ولكن من الصعب للغاية على الدولة أن تحقق واردات مالية يجعلها قادرة على إدارة الدين بشكل معقول وتكتفي بتسديد الديون على الدين العام بدلاً من التخلص من أصل المشكلة، وإنّ سياسة رفع أسعار الفائدة لم تجلب إلا المزيد من الضرر على مالية الدولة وسط عدم رغبة البنوك اللبنانية في تقديم التسهيلات الائتمانية لتنشيط الاقتصاد اللبناني واستبداله بالعمل على توظيف الأموال في سندات الخزانة، عوضاً عن التسهيلات الائتمانية نظراً لضمان المخاطر الأقلّ في هذه التوظيفات، وهذا ما شكل ضرراً فادحاً بالنسبة إلى القطاعات التشغيلية والخدماتية بشكل عام في لبنان. لذلك لا يمكن القول إنّ سياسة مصرف لبنان، القائمة حالياً على سياسة رفع الفوائد على السندات بالليرة اللبنانية والدولار، هي سياسة حكيمة يمكن أن تعطي فرصة للدولة اللبنانية للتخلص من ديونها بشكل عام.
والمثير للجدل حالياً هو كيفية الخروج من ملف قروض «سيدر» قبل الولوج إليه. فالنزاعات السياسية القائمة الآن على تشكيل الحكومة هي نزاعات على الحقائب السيادية وكيفية إنفاق هذه القروض التي بدأ مصيرها يتهدّد قبل أن تأتي إلى لبنان وهي مشروطة بمشاريع لبنى تحتية، الأمر الذي يضعنا أمام سؤال أكبر وهو: على أية مشاريع صُرفت القروض التي تراكمت على لبنان منذ قدوم الرئيس الراحل رفيق الحريري؟ ألم تكفِ مئة مليار للبنى التحتية حتى يكتشف لبنان مؤخراً أنه بحاجة إلى قروض لتمويل مشاريع بنى تحتية جديدة؟ هذا بكلّ بساطة هو فساد جديد وباب جديد من أبواب النهب العام إن أخذنا في الاعتبار مسيرة الإنفاق العام في لبنان وعدم تقديم الحكومات المتعاقبة حساباً واضحاً بشأن هذه الأموال. فهل سيسكت القضاء عنها؟ أم أنّ الجرائم المالية تسقط بفعل الزمن بينما هناك مذكرات توقيف على لبنانيين لسرقة قارورة غاز أو محلّ وسرقات أخرى لا مجال للمقارنة بينها وبين جرائم المال العام، لكنّ القضاء ينفخ عضلاته بها ويقبض على لص سرق ما قيمته 50 بينما يترك من سرق 50 مليار . والسوال المطروح: لماذا تقف الدولة عاجزة عن تحقيق المزيد من الإيرادات وهي صاحبة القرار في السوق اللبنانية وهذه الإيرادات متاحة وسهلة جداً عليها؟
لماذا لا تستطيع الدولة اللبنانية تقديم خدمات المياه والكهرباء للمواطن اللبناني، علماً أنّ في لبنان أكثر من 14 نهراً إضافة إلى شواطئ تمتدّ على نحو 230 كلم من الشمال إلى الجنوب؟ لماذا تستطيع دولة مثل باكستان أو بنغلادش زرع عشرات الآلاف من لوحات توليد الكهرباء من الطاقة الشمسية بينما يفشل لبنان الذي تسطع فيه الشمس أكثر من 80 في المئة من أيام السنة؟ ولماذا لا تستطيع الدولة نشر توربينات المراوح لتوليد الطاقة بينما العالم كله على سواحل أوروبا والبحر المتوسط يستطيع أن يلبّي أكثر من 30 في المئة من حاجاته من هذه المولدات؟
لماذا تستطيع اليمن أن يكون لديها مشروعان لتحلية المياة وهي دولة فقيرة، بينما لبنان يملك كلّ مياه البحر المتوسط ويمكن تكريرها للاستخدامات العامة ويحافظ على ثروته المائية العذبة؟ هناك محطات تكرير تستطيع أن تحلي أكثر من مليون ليتر يومياً من مياه البحار لا تتجاوز قيمتها الـ 35 ألف دولار أيّ ما يعادل تلبية احتياجات حوالي ألف منزل بألف ليتر يومياً من المياه المكرّرة للاستخدام العام. ألهذه الدرجة أصبح اللبناني محدود الأفق في ابتكاراته وإنجازاته وهو المعروف بأنه المغامر والريادي في كلّ العصور حيث جاب البحار والقفار ليجلب الثروة لوطنه ويعجز عنها في موطنه؟
إصلاحات اقتصادية لمواجهة المهوّلين بالانهيار
في ظلّ استمرار الفساد المالي والسياسي والاقتصادي، نخشى أن تكون السنوات المقبلة عجافاً لجهة الموازنات العامة وخدمات اللبنانيين، وإذا لم يرتقِ الأداء السياسي إلى ضبط ملف الفساد العام والهدر في الموازنة فإنّ الحال ينذر بتفجر الأوضاع الإنسانية والاجتماعية في لبنان، أضف إلى ذلك الإشاعات والتهويل على الليرة اللبنانية من قبل عدد من الأصوات التي لا يمكن الركون إليها علمياً، لكنها تصدح بكلّ قوّتها لأهداف باتت معروفة وهي النيل من بعض القوى السياسية التي لا تروق لهم ويريدون أن يحمّلوها أكثر من طاقتها، إضافة إلى إدانتهم بجرائم الغير وهي ملفات تستطيع هذه الجهات السياسية فتحها بكلّ هدوء في أيّ وقت تريد علماً أنها لا تودّ التصعيد في ملفات الفساد المالي في الإدارات.
ولعلّ امتشاق بعض العناوين السياسية أصبح أمراً مهماً لهذه القوى السياسية المستهدفة في لبنان وعليها أن تشهرها بوجه الفاسدين ووضع حدّ لهم وكفّ يدهم عن المال العام ومحاسبتهم قضائياً لأنّ السكوت عن الحق هو خراب قادم على البلاد والعباد. ولأنّ هذه القوى تصف نفسها بأنها خارج سلطة الشيطان وتسلطه، بات عليها المبادرة والعمل الحثيث على جبهتين: الأولى تقديم مشاريع حيوية لإعادة إحياة المناطق المهملة وتحريك عجلة الاقتصاد بها في مشاريع حقيقة لا وهمية وكلام فيه نغمات سياسية تروق للبعض. الجبهة الثانية هي إعادة إحياء الخدمات التي من المفترض أن تقدّمها الدولة لمواطنيها، خاصة أنها لا ترحمهم في الضرائب وجبايتها وتحاسبهم عليها قانونياً. لكن إنْ أخلّت الدولة بواجباتها فهذا إخلال بالعقد الاجتماعي بين المواطن والمسؤول الذي ينوب عنه في التمثيل النيابي والحزبي السياسي. لذا أصبح من الضرورة إسكات الأصوات التي تبثّ الشائعات على الموطنين بالتهويل بالانهيار الاقتصادي، وفي الوقت نفسه، تقديم برامج عملية حقيقة للمواطن لإعادة الخدمات إلى ما يجب أن تكون عليه، إضافة إلى تفهُّم المواطن لما عليه من واجبات ليتلقى هذه الخدمات كي لا يبقى تحت رحمة المحتكرين الذين أتاحت لهم الظروف السياسية في لبنان للانفلاش والاستقواء على خدمات الدولة ونهبها ووضع اليد عليها، كما يجب التصدّي لأيّ مشروع يحاول تمرير صفقات الخصخصة لقطاعات الخدمات في لبنان في وقت تخلت فيه كلّ دول العالم عن هذه البرامج لعدم جدواها في إطار خدمة الإنسان والمجتمع.
من الضروري أن نقف بضمير أمام أنفسنا ونعود إلى إصلاح كافة القطاعات الخدماتية وفي داوئر الدولة لخدمة المواطنين لا خداعهم.