الفنانة السورية هناء عوض: استفدت من كلّ ما هو مرميّ ومستهلك وحوّلته تحفاً فنية لها معنى ودلالات
طلال مرتضى
أن ترى الحياة من زاوية لا يراها الآخر فتلك فراسة روح وعقل، كما حين تجد لأشياء العدم معنى، فإنك بذلك تعيد لتلك الأشياء رهجتها أو رسم طريقها التي ضلّته إما بفعل الزمن أو التداول.. الفكرة بسيطة وهي أقلّ مما نتوقعه أو بالمدارك هو ما يتحوّل بحالة الحس من مجاز إلى رمز وإشارات، تلك هي بدعة أن تكون الروح قبل العقل محراك شهوة لافتعال والتقاط الجمال من العدم. فالعدم وحده، هو كل ما يحيط بنا مع فارق الرؤية بين شخص وآخر، كتلويح أولي بالسؤال، كيف يمكننا صناعة الجمال من العدم ذاته، العدم الذي تمّ استهلاكه مسبقاً ليتحوّل من كينونة حياة إلى تفاصيل اللا شيء.
ثمّة امرأة مختلفة هناك، عند الحدّ القصي من الرؤية تجلس على ضفة البهاء، تعيد ترتيب أوراق اعتمادنا على طريقتها، لا لتجعل منا سفراء حكايات فحسب بل لتجعل من حضورنا في عين الآخر مفاز دهشة فادح..
امرأة لا يرتسم في ظل نظرها العالي سوى رهج الجمال، صيرورة الحياة التي لا تتوقف عند منعطف ما، بل أبعد من امتداد لافتعالاتها الغاوية بعين كل عابري فتنة حضورها..
هناء محمود عوض السورية النمساوية، العين الثالثة لمنظار الجمال الفطري والتي تودي بنا كضيوف من خارج دفتر حساباتها إلى عوالم تنكشف فيما بعد إلى مساحات من الرؤى الخلابة، حين تقوم بتحويل ما كنّا نعتقده «مجانياً» إلى ذي مدلول وتيمة يأخذنا الفضول قسراً لفكّ طلسم سرّ تكوينه.
تقول هناء: الفكرة بدأت من دون مناسبة، فقط كنت أرى بأن أي شيء حولي مستهلك يمكن إعادة تدويره بطريقة مغايرة والذهاب به من فكرة العدم والغياب إلى حيز وجودي حاضر.. كل ما حولنا وبين أيدينا وكل ما رميناه وصار عبئاً علينا، لو تمهّلنا قليلاً وأعدنا النظر في تفاصيله لوجدنا بأنه يمكن أن يكون مفيداً بطريقة أخرى غير التي انتهى إليها.
هكذا بدأت الحكاية بفكرة بسيطة، حين قمت بالاستفادة من مستوعبات البلاستيك والورق والزجاج التالف والخشب وكل ما نستعمله في اليومي مما نسمّيه بالمخلفات، وقمت بإعادة تدويرها وتحوير خطّها لتكون من شيء إلى تحفة صديقة أولاً للإنسان ثم البيئةـ إلى أن تطور الأمر ليأخذ منحى التحدي لإثبات الحضور والذي استطعت كسره حين تحولت الأشياء التي حولي كلها تحفاً فنية ذات معنى ودلالات.
حين يجتمع إرث ثقافتين عامرتين بالمعاني في دم الإنسان، فهذا يعني أنه مختلف، وكلمة مختلف هذه علّها لا تعطي المدلول إلى ما أشرت إليه، وما أعنيه هو صناعة الجمال في عيون الآخر من اللاشيء.
وهو ما استطاعته هناء عوض حين دمجت معاً تلك الثقافتين المشرقية والغربية في بوتقة واحدة من خلال إعادة تدوير كل ما هو تالف وعدمي إلى فني وقابل أن يكون في مكان يبعث في الروح الانبهار.. بالطبع ليست السبّاقة في هذا المجال الفني والذي ترك أثراً وقدم نجوماً من خلال زمريات وأشياء نراها اليوم حتى في الشوارع كبنورامات تم الاشتغال عليها لتكون نصباً أو صروحاً في الميادين وغيرها، لكنها المنمنمات الصغيرة التي اشتغلت عليها هناء عوض والتي تحفظها عن سابق إرث حملته معها من البلاد العتيقة هو ما ساعدها على تشكيل رؤية فنية مغايرة عما سبقها في هذا المجال. فالتحف المشرقية لها حضورها في الغرب وهو ما استثمرته هناء عوض في هذا الجانب حين دأبت لإظهار هذا الطابع من خلال المشغولات الناعمة «الخرز» وتشكيل الشموع وتحويل بطاقات المناسبات من بطاقة دعوة عادية إلى تذكارات معمّرة.
ما يلفت في الأمر، وخصوصاً عندما تقوم بمشغولات الخرز الذي تحمل طابعاً مشرقياً بأنها تشتغل قطعة واحدة فقط وليس لها أخت تالية.
«هناء عوض» تجربة فنية يمكن الوقوف عندها طويلاً وتحتاج لقراءة أكثر عمقاً من خبر عابر طي الصحيفة لتبيان رمز وإشارات ودال ومدلول ما تتركه وترسمه في عيون دهشتنا وغواها.
كاتب وإعلامي عربي/ فيينا