«9 كيهك… البعد الخامس» تعرية فادحة لتاريخ كاذب!!

طلال مرتضى

ثمّة سؤالان يتربّعان عتبةً «على الكلام» قبل الشروع في فرد أوراق الحكاية فوق طاولة التبيان، لإجلاء غبار الطلع عن التفاصيل المواربة أو تلك التي لبست عباءة الإيهام، من خلال صيرورة الإشارات المحمّلة على عاتقها، تارة لفِتنة القارئ وتارة أخرى للوقوف على نواصٍ أشي بتسميتها بما يتبادر إلى مسامعنا ـ بالمصادفات ـ عما هو مسكوت عنها قصداً. وهو ما يفتح لي باب السؤال الأول على عجالة، أي التواريخ نعيش الآن؟

ألم نقتنع ويقتنع العوام بأن التاريخ الذي نعيشه ونعلمه إلى أولادنا كذبة، اشتغل عليها أصحاب النفوذ أو الجاه أو.. كتبوه برؤيتهم هم لأن الفترة تلك كانت فترتهم وهم الأقوى. وبالتأكيد الأقوى هو من يفرض رؤيته على التاريخ وليس العكس؟ لا أبحث عن أجوبة شافية كما يتوقّع البعض، لأن الحقيقة أعرفها من خلال الواقع اليومي الذي يعصف بنا، عدا أنه تجسّد اليوم بيدي كمستند خطّي لا يمكن لأحد أن يوارب حقيقته، الحقيقة التي نصفّق لها ونؤمن بها حق إيمان، لكننا لا نمارسها من باب أننا لسنا أكثر من تابعين أو خاضعين إما لسلطة عليا سماوية أو دنيوية، وما أكثرها السلطات الحياتية التي تجعلنا أسرى لها في زمننا الحالي.

محمد جاد الله الكاتب المصري، لست أدري إن كان حجره الغاوي الذي رماه في غيهب بئر أرواحنا كي يبين أو يجيب عما أشرت إليه أعلاه، أم ذهب مثل غيره ومن باب الواجب العالي وعلى مبدأ، «قلها وانطلق»؟

فيما أجيب هذه المرة عنه وعلى الرغم من أنه ذهب نحو تبديد الحقيقة التي أرادها، فإنّه لم يكتب أو يقل كلمته وينطلق بل أراد الوقوف على سدرة منتهى الصدق في مرويّته الموسومة «9 كيهك.. البعد الخامس»، والتي صدرت عن «دار الرواق للطباعة والنشر والتوزيع» المصرية، من حيث إنه استعمل عتبة عليا، عنوان، إشكالي بحت وهو ما سيشغل ذهنية القارئ على مدّ بساط القراءة للوقوف على دلالاته ومضمره المكنون داخل التفاصيل والذي لم يكن جاد الله ليسلمه لقارئه إلا بعد أن نال منه مآرب القراءة.

حين وصلت الخواتيم وجدت سؤالي الأول طافياً فوق زبد القفلة التي توقف عندها جاد الله تماماً، كجواب مباشر يروي غرور ذائقتي كقارئ عارف، فهو حاول وبكل ممكناته الاشتغال على مدلولات العنوان كحامل أولي وأساسي لعمليته الروائية والذي يدرك بفطرته الكتابية بأن العنوان قادر على حمل الكثير من المقولات والأفكار من دون أن يربك العملية الكتابية، ولهذا ذهب مطمئناً نحو ما يريد..

أراد أولاً أن يجعل من «9 كيهك.. الأفق الخامس» مرجعاً يعوده القراء الباحثين عن شغف ما هو مخبوء تحت الأرض أو مكنوز لدى القصور أو المتاحف التي لا تتاح للكثيرين معاينته إلا عبر الورق، وأشي بأنه نجح من باب معرفته بكل المعطيات التي قدّمها لكون العلاقة بينه وبين ما تحدث عنه – وبعيداً عن كونه مصرياً – فهذا الميدان هو ملعبه، وبصراحة وأنا أقرأ ـ كثيراً – ما أصابتني دهشة الكلام لكثرة ما ضخّ الكاتب من معلومات إلى أن تكشفت لي الحقيقة، حين ترك نبذه عنه في الصفحة الأخيرة والتي تُدلي بأنه يعمل كمرشد ودليل سياحي، وهو ما يتيح لتلك المرويّة بأن تكون أيضاً دليلاً ومرجعاً يستأنس به مَن لهم بحكاية الآثار شغفاً.

بقي الكاتب يواربني كقارئ إلى النهايات، وهو ما جعلني أصل حدّ النزق في مطرح ما من الرواية، حين دسّ ولربما عن سابع عمد سرداً ثقيلاً تجاوز أكثر من 40 صفحة في حوارية مرّت بحلم عادل البطل، وهو منصت إلى ما يدور بين عالم الآثار وابنه في أحد القصور أو المقابر الملكية، ليسترجع خلال حوارهما تاريخاً وحقباً طويلةً كان من الممكن تمريرها في صفحة واحدة ليخرج بعدها عالم الآثار إلى الواقع، ليتقابل في مقهى على ضفاف النيل مع جد عادل ثم يفضي إليه بما يتم التخطيط له حول كف يده عن العمل، ليذهب الحديث إلى مقامات وشجون تالية حول قصص سرقة الآثار المصرية وإخفاء جزء كبير منها ليس للغاية المادية قطعاً، على الرغم من أنه أكد أي «فيرث» بقوله: هكذا العالم المادي من حولنا «لا يجذبه» إلا ما يلمع. لكنه بالحقيقة لم يكن هذا هو السبب الحقيقي، إنما هو الخوف من مواجهة التاريخ بعينه، عندما قال، للأسف هناك من أوراق البردي لم تزل مخبوءة عند أبناء جلدتنا ويقصد الفرنسيين والانجليز. لتصير الإجابة عن سؤالي الأول واضحة كوضوح الشمس في كبد السماء، نعم الكل يخاف مما هو مخبوء في تاريخ مصر الأول وعلى قول السيد فيرث: أتظنّ يا عزيزي «عبده» أن باباوات روما أو كبار حاخامات اليهود والحكومات الخاضعة لهم وشيطان المصالح المرتبطة بهم سوف يسمحون بأن يستعيدّ الشرق قوته الروحية المستمدّة من إرث حضارته القديمة»؟

بالمطلق الجواب هو لا، فلا اليهود ولا المسيحيون أو المسلمون أيضاً يرتضون بأن نتعرّف إلى التاريخ الإنساني الحقيقي. فالكل لديه مشكلته الخاصة مع هذا التاريخ الذي سيُعرّيهم تماماً ويكشف زيف دعواهم التي استعبدوا من خلالها البشر جميعاً، وهو ما سيجعله في عيوننا كذبة كتبوها ليمارسوا سطوتهم علينا باسم الله. ومن معطى أني مسلم ألاّ أجد بأن إشارة «البعد الخامس» هذه المرقومة في تلك الحقبة تؤرق ممن دوّنوا تاريخنا الإسلامي.

بنائياً، المرويّة بنيت بلغة مترابطة ذهبت إلى التقريرية أو المباشرة. وهو ما جعل من وهج سردها خافتاً في كثير من الأماكن وذلك لا يعود لعدم مقدرة الكاتب على خلق لغة سرد شائقة بالمطلق بقدر ما فرضته المعطيات الواقعية والتي لا يمكنه العبث فيها حفاظاً على مصداقيتها من قصص التاريخ المكتوب قبلاً أو الآثار واللقيات الأثرية. فنياً، وكما أسلفت بأن الكاتب ذهب نحو تعمية الرواية حين اختار العنوان «9 كيهك.. الأفق الخامس»، وهو ما يقابل في التاريخ الحديث يوماً في شهر ديسمبر أو في التاريخ الهجري يوم شهر «صفر»، وهو شهر الحكمة والمعرفة لدى أجدادنا الذي خطوا للإنسانية طريقها.

ولكون اختيار العنوان أما أن يأتي من باب الدعاية أو غواية القارئ واصطياده أو كاشفاً في كثير من الأحيان لما هو داخل الغلاف كما عرفه «جان جنيه» بتصرّف، أقول إنما أراد جاد الله من خلال ما منح له من سلطة لاختيار عنوانه، هو للغواية والمخاتلة، فالأبعاد الثلاثة، طول، عرض، ارتفاع… أضاف عليها أينشتاين البعد الرابع وهو الزمن ليستقيم الحدث وفِي الخيال العلمي أضافوا البعد الخامس وهو الخيال «الخط التخيّلي». وقد أعاد لمخيلتي فكرة فيلم «بين النجوم Interstellar» في رحلة استكشاف شيّقة للفضاء الشاسع عبر البعد الخامس في ثقب أسود… ولعلّ ذلك جواباً تالياً لسؤالي للقارئ عن التواصل القديم بين الأرض والسماء ما قبل قصة «المعراج» كفكرة مرت في الرواية؟

فالمحتوى عرف «كيهك» بهذا الشهر بأنه شهر المعرفة والحكمة دون الإيغال في شروح هذا الأمر، علماً أنه قدّم كثيراً من الشروح قد تكون لزوم ما لا يلزم كما أشرت سالفاً حول حوار عالم الآثار أو المكتنز وابنه!

ثمّة غبن زمني مارسه الكاتب، عندما تركنا نعيش فترة طويلة تحت سطوة فطرية الطفل عادل والذي تشغل حواسه فورة الاكتشاف، لقد كنّا نعيش تلك الطفولة خطوة بخطوة وسطراً بسطر لنفاجأ بنقلة سريعة أشي بأنها كسرت سياق عمره الزمني، وقت نادت أمه: هيا انهض لتعرف نتيجة انتهاء المرحلة الثانوية، فأنت لم تعد صغيراً بعد شهور ستدخل الجامعة.

بعيداً عن كل ما قلته أعلاه، ثمة كلمة أخيرة يجب أن تبقى هنا كسرّ أودعه صدر الجريدة، أشي من خلالها سواء تخففت مروية محمد جاد الله من كل ما أثقلها من لواحق أو لم تتخفف فأنها وضعت إصبع حضورها في عين من أرادوا طمس تاريخ إنسانية الكون.

هامش

البيت العربي النمساوي/ فيينا، سوف يقيم مساء اليوم 25/01/2019، فعالية أدبية للرواية، حوارية مع الكاتب جاد الله ويشرحها بالألمانية الأستاذ محمد فاروق.

كاتب عربي/ فيينا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى