رؤى فلسفيّة واجتماعيّة مهّدت لولادة الروائيّ الكبير
صدرت للأديب الفرنسيّ الخالد، مبدع «مدام بوفاري»، مجموعته «نصوص الصّبا… قصص وتأمّلات» في ترجمة إلى العربية ضمن منشورات «كلمة»، أنجزتها ماري طوق، وهي مجموعة مختارة من أعماله القصصية والحكائية وشذراته النثرية.
تتمحور تجربة فلوبير الأدبيّة حول محاور ثلاثة هي التخيل التاريخي، كما في روايتي »سالامبو» و»تجربة القديس أنطونيوس»، والواقعية كما في »مدام بوفاري» والتربية العاطفية، والتأملات والشذرات كما في كتاب »معجم الأفكار الجاهزة». ويمكن اعتبار نصوص الصبا على ما تؤكد مقدمة الكتاب، بمثابة المختبر الذي حاول فيه اختبار مختلف المواضيع والأفكار والرؤى التي ستتجسد في أعماله اللاحقة، ما يظهر أهمية هذه القصص المختارة التي تشكل المهاد الأولي لتجربته الروائية وحضور الجانب الذاتي من شخصية فلوبير، لا سيما في رواية التربية العاطفية وفيها حكاية حبه الأول الذي لم يستطع أن يتخلص من تأثيره.
في تقديمه لقصة »عطر خفي» أو »البهلوانات» تتكشف الرؤية الفلسفية والاجتماعية التي يحاول تضمينها هذه القصة الرمزية، ويدين فيها التقدم المادي للحضارة الغربية الذي لا يرافقه تطور فكري واجتماعي مواز يجعل الحياة أكثر اتساقاً وعدالة، وذلك من خلال الصراع بين شخصيتين تمثل الأولى القبح والثانية الجمال ضمن مجموعة من البهلوانات. تلعب جملة الاستهلال في هذه القصة الرمزية دوراً أساسياً في وصف المكان الذي ستدور فيه حوادث القصة، بينما يتولى الراوي العليم مهمة سرد الحكاية وتقديم شخوصها ونقل الحوارات التي تدور بين أبطالها، إذ تتوزع الحكاية على اثني عشر جزءاً يختمها القاص بتعليق يكشف فيه عن دوافعه لكتابة هذه القصة، أو عن مقاصد اختياره العنوان ورغبته في نقد قيم المجتمع السائدة وفضح أخلاقياته الزائفة. بعد ذلك يتوجه إلى القارئ مباشرة لشرح معنى لذة الكتابة لديه وتجسيده الأفكار الفلسفية، تاركا للقارئ المفترض حرية قراءة العمل.
لعل السؤال الذي يلح على ذهن القارئ لدى قراءته هذه القصة هو لماذا أراد الكاتب تأنيث الموت الذي يلقي بظلاله القوية عليه هنا وفي أعمال قصصية أخرى عديدة؟ الإجابة عن هذا السؤال يمكن تلمّسها لدى قراءة هذا النص الذي يمهد له بمقطعين مستمدين من أعمال أخرى، ومن خلال أنسنة الموت وجعله متكلماً في هذا النص الموزع على سبع وعشرين شذرة مكثفة وموحية، بغية الكشف عن المعضلة الوجودية والتاريخية، التي يمثلها الموت بالنسبة إلى الإنسان وإلى الحضارات والتاريخ: «منذ اليوم الذي طرد فيه آدم وزوجته من الجنة، مذ ذاك أقف، أنا ابنة إبليس إزاء الإمبراطوريات جميعها، وإزاء القصور كلها وأسحقها بقدميّ العظيمتين». في هذه الشذرات ثمة تعالق يلحظه القارئ على مستوى الرؤية واللغة بينها وبين مزامير داود.
على مستوى آخر يظهر استخدام فلوبير للحكاية في هذه المجموعة، كما في حكايته «الطاعون في فلورنسا» التي يتوّجها بمقطع من رواية لألكسندر دوما. تبدأ الحكاية بالفعل الماضي المبني للمجهول يُحكى الذي يحيل على راو مجهول، كما هي الحال عادة في مطلع الحكاية الشفوية. ومثلما كان يوسف ضحية كراهية أشقائه وحسدهم، فإن الحكاية هنا تتحدث عن الغيرة والحسد بين شقيقين يقصدان عرافة لكي تتنبأ لهما بالمستقبل. وعلى غرار الحكايات الأسطورية تتحقق نبوءة العرافة، ويقتل الشقيق شقيقه حسداً وغيرة، تبعاً لما يعبر عنه خطابه إلى شقيقه قبل قتله: «أنت لا تعرف كم يشبه الإنسان الشيطان عندما يحوّله الظلم بهيمة متوحشة. آه كم تعذبني رؤيتك تعيش فَخُذْ». يكتشف الأب جريمة ابنه فيقوده ليرى مشهد شقيقه المسجى غارقاً في دمه فلا يكون من شقيقه القاتل إلا أن يخرّ جثة هامدة. تعليق الكاتب على الحكاية في النهاية يكشف عن الأمثولة التي تحاول القصة تقديمها ليعتبر الآخرون.
تتجاوز جرأة فلوبير التمرد على العرف الاجتماعي وأخلاقيات المجتمع التقليدي إلى التمرد على سلطة الكهنوت الديني، ففي قصة «الغضب والعجز» التي يستهلها بعتبة مكانية يصف فيها المكان الذي ستدور فيه الحوادث، وهي قرية موسين التي يتوفى طبيبها الطيب بسبب تناول أقراص الأفيون للتغلب على أوجاع أسنانه. أثناء غيبوبته يحلم الطبيب أوملان بأحلام مطعمة بشهوات الحب ومسرّاته وبعالم الشرق بجميع عطوره وزمرده وأزهاره وقوافله التي تعبر الصحارى، وبقصور حريمه موطن الشهوات الندية. كان «يحلم بالحب في مقبرة، لكن الحلم امّحى وبقيت المقبرة . بعد دفنه يصحو الطبيب من غيبوبته ليجد نفسه مكبلاً داخل ظلمة تامة، فيحاول إنقاذ نفسه من دون جدوى.
تتميز القصة ببنيتها السردية التقليدية كما هي الحال في معظم قصص المجموعة، إذ يتسم السرد بالخطية والتعاقبية التي تتصاعد حتى تبلغ الذروة، كاشفة عن النهايات المأسوية لصديقه الكلب «فوكس» ولخادمته التي تنتهي منتحرة حزناً عليه. وكالعادة يعلق فلوبير على القصة في النهاية، كاشفا عن نزعة التمرد التي يدعو إليها كمخرج لنا مما نحن فيه من بؤس وفساد وموت.
يلعب العنوان في قصص الكاتب دوراً محورياً في تكثيف مضمون القصة أو الحكاية واختزاله، بغض النظر عن واقعيتها أو فنتازيّتها أو بنيتها الحكائية، ما يجعل منه مفتاحاً للدخول إلى عالم هذه القصص والحكايات. لا يكتفي بعنوان واحد بل يستخدم عنواناً ثانياً يتعلق بمضمون الحكاية أو القصة، ويحاول من خلاله تحديد طبيعتها، ليكشف عن مقاصده من هذه القصة أو الحكاية، وعن طبيعة الرؤية التي تنطلق منها في معالجتها لموضوعها.
إذا كانت المترجمة بدأت المجموعة بقصة طويلة فإنها في النهاية تختار نص شذرات تظهر فيه ثنائية العنونة التي تحدد زمن كتابتها الخريف وطبيعة النص، ويسترسل بطل القصة وسارد وقائعها في وصف علاقته بفصل الخريف فيطغى على النص الطابع الإنشائي الذي يحاول من خلاله سرد سيرة حياته والتعبير عن مشاعره من دون أن تغيب صورة الموت عنها، أو تختفي تلك الرؤية الرومانسية عن لغتها أو عن مفهومها للحياة وعلاقتها بالطبيعة: «تلذذت طويلا بطعم حياتي الضائعة. قلت بفرح إن شبابي مضى. من المفرح أن تشعر بالبرد يتسرب إلى قلبك، وتظل قادراً على القول وأنت تلمسه بيدك مثل موقد لا يزال ساخناً، إنه ما عاد يلسع».