التشكيليّة الهنغارية سوزان دومونكوس… لوحات مكثّفة في ظلّ الألوان وتموّجاتٍ حرّة

طلال مرتضى

ثمة عبور مربك يتلمّسه الرائي منذ لحظة الوقوف الأولى، تشكل عبر متواليات لونية قائمة على فعالية التتابع من جيل إلى آخر يرتسم من دون تعيّن على بياض المتخيّل الشاسع في أذهاننا، وهو الوقوف المتأرجح على وتر شعرة ملساء تجسّد الواقع كما هو في العين الرائية ومتخيل عمداً يأخذنا بما هو فادح، بل أبعد من حدود الدهشة من خلال الدوامات التي تتسع وتضيق تحت مدى حركة ارتطام الفرشاة المتخمة بكثافات لونية مغايرة، لتلامس ببرود الوجه الأملس للقماش المتلهف لارتشاف سقيا الزيت قبل أن يتحلل ضمن مسامه عكر اللون.

انطلاق وتأمّل

ثورة أعاصير وارتجاجات وجدانية تكتظ بها علانية أعمال الفنانة التشكيلية الهنغارية سوزان دومونكوس لا يعي مشاهدها من تلمسه بكل حواسه وربما الغرق في جوانيتها بعد لحظات من التأمل، وهو انعكاس الأنا في إطار اللوحة. تلك الأساطير أو ما نطلق عليه بالخرافة استطاعت دومونكوس تجسيده بألوان أصلية مثل الأحمر، الأزرق، الأخضر، والأبيض والمعروف عن تلك الألوان بحدّ ذاتها أنها ألوان تمتلك الكثير من سطوة الحضور على القماش وبمهابة ترتد رجعاً في ذهنية المتلقي، لكن السؤال الأهم في هذه اللحظة، وهو كيف استطاعت الفنانة كسر حدّة تلك الألوان وتحويلها من ألوان حارة إلى ألوان باردة؟

تملّص رشيق في ظلّ الألوان

مما لا شك فيه وعند الوقوف أمام تلك الهالات اللونية العتيقة، وعلى الرغم من هياج الخطوط وارتباكها داخل مربّع الإطار، إلا أن ارتياحاً ما يتسلل إلى روحك من غير إذن يقوم بفاعلية غائبة على جرك وأنت متهادي الأنفاس من محور الدوامة الهائج نزولاً إلى نقطة الأمان التي تركت الفنانة خيوطاً متفلتة، تبدأ من نقطة ما ارتكازية عند عمق اللوحة تتدرّج صعوداً نحو الدائرة الأوسع الفضاء والتي توازي في كل أعمالها قرص شمس أو انعكاس قمر أو ضوء منكسر كوهج ولد من لون حار كما يظهر في الأحمر الفائر أو الأسود العتيق.

وفي منحى آخر وعلى الرغم من تعدّد موضوعات الفنانة الهنغارية والتي تجسّد في كثير من الأحيان انعكاس الطبيعة والمباني وقصص الأحلام كالخرافات والشياطين، وهي في الواقع لها حضورها المحسوس، لكنها استطاعت وببراعة مدهشة خلق هالات لونية تخصها وحدها، واستطاعت أيضاً التملّص برشاقة متناهية من سلطة الظلّ في كل أعمالها، قد يقبض البعض على انعكاسات ارتدادية لا إرادية عند حافات أو في جوانية اللوحات لكنها بالمطلق ليست أكثر من انعكاس نظري ولا يقترب من تكوينات الظلال، وفي أبعد التخمينات فإن الفنانة ذهبت إلى تكوين الصدى الموازي أو ما يطلق عليه بالمتوازيات رياضياً لما تتركه على رقعة القماش..

كما ذهبت بالكثير من أعمالها نحو لا مركزية بنائية لأي عمل، فالمعمار الفني لتشكيلاتها يختلف وينافي تماماً المبنى الهندسي المعتاد الذي يقوم على قاعدة ارتكاز أس ثم أفق، وتلك ما نسمّيه بالعوام الحرفنة ، فلوحة دومونكوس متعدّدة الأوجه، فيمكن قلب العمل الذي يجسّد سكون قاع البحر وهو ما يتيح لنا أن نعاين من حيث نقف تسلّل الضوء وانكساراته المتشظية عبر الزرقة المتهادية نحو القاع، تماماً.

وهنا حضرتني مفارقة.. الدوائر التي تنتقل مع الرسامة من لوحة إلى أخرى تذكر ببعض التشابه بين لوحاتها ولوحات «ڤان غوخ» التي تظهر التموّجات والدوامات، كما تتصف بها اضطراب حركة السوائل في الطبيعة.

الريح… محسوس تصويري في لوحاتها

يختلف المعطى حين ينقلب رأس العمل عكساً للتشكّل من جديد رؤية مختلفة تماماً عما كنا نتلمسها بالنظر قبل قليل، فتصبح زرقة الماء مثل سحابة دخانية متفجّرة، قد ترتسم في الذهن لحظة خروج بركان ما عن طوره من مرحلة الخمول إلى مرحلة الانفجار. وحده الثابت في كل أعمالها الفنية هو الريح أو الهواء، فدلالة الهواء أو الريح حاضرة كمحسوس تصويري ويمكننا معايشتها من دون ارتباك. وهذا جلي أمام العين يمكننا القبض عليه من خلال اتجاه الخطوط المتفلتة النهايات وهو ما يشير إلى اتجاه بوصلة الريح، وهي مفارقة أخرى، فمعظم ما عاينته من أعمال سالفة لفنانين عرب أو غربيين كان الرهط كله يتكئ في بناء اللوحة من خلال سلطة الضوء والظلال Chiaroscuro ، فالكل يذهب نحو فتح فضاءات اللوحة القصية على عكس دومونكوس التي استخدمت فعالية اتجاه الريح كبوصلة تفتح لها مدارك اللوحة التي تتركها مطمئنة بعدما تأكدت بأنها أصابت مقتل الرائي في الصميم حين تركته يكتشف أناه عبر خيوط ليست أكثر من أضغاث ألوان كانت في رأس «دومونكوس» قبل أن تغمر فرشاتها في محتوى اللون.

سوزان دومونكوس في أسطر

سوزان دومونكوس تشكيلية هنغارية، ولدت في بودابست. لها عدة معارض فنية خاصة في فيينا متفرقة وبودابست.

كاتب عربي/ فيينا.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى