نبوءة خاتم الشّعراء في ديوان «النّبيّ.. ما بعد الأخير» للشّاعر كميل حمادة
خلود عبد النّبي ياسين
«النّبيّ .. ما بعد الأخير» عنوان مُثير للتّساؤل وربّما للجدل أيضًا، فالانفعال الأوّل اتّجاهه حادّ مثل عطش الصّحراء، مُقلِق كخوف من مجهول، لكنّه يبقى مغريًا للباحث كما للقارئ لاكتشاف ما تحتويه أقسامه الثّلاثة:
ماذا أضفتَ إلى القصيدة؟ 23 قصيدة
لو أنّني امرأة.. 25 قصيدة
سادن النّخل 3 قصائد
يأتي هذا الدّيوان بعد إصداريْن شعريّين لحمادة، فدواوينه السّابقة حملت عناوينها أيضًا رموزًا دلاليّة خاصّة، بين الإشارة لذاتيّة الشّاعر، وبنيويّتها المرصودة على أجنحة الجنّ في «وادي عبقر»، فجاء هذا الدّيوان ليجسّد مسيرة شعريّة تمتاز بتوجّهات شعريّة تجديديّة وتطويريّة إزاء النصّ الشّعريّ، وإزاء لغة زاخرة بالمعاني وعامرة بالصّور، فالشّاعر في إصداره الأخير يبلغ الذّروة في هذا الاتّجاه محلّقًا خارج سرب الشّعراء من أبناء جيله، خارجًا عن النّصّ، في أجواء إبداعيّة تخصّه وحده:
«أنا خارجيّ النّصّ..
مزدحم بكلّ تناقضي»
«أنا خارجيّ النّصّ.. صوفيّ المعاني..»
نلاحظ أنّ الشّاعر لا يضع تصميمًا مفصّلاً لأفكار قصيدته، إنّها تأتي تعبيرًا عن الحال الّتي ترِد على قلبه بمحض الموهبة من غير اجتلاب واكتساب، لذا تتدافع حالات الخلق الشّعريّ لديه، ويسكن النّخيل والجدل المجنون عيْنيْه، فتهطل قصائده في بادية القلب، مُشكّلة رذاذًا يُنعِش شرايين الجداول الشّعريّة، كما يُنعِش العاصي الجرد :
«يا أيّها الشُّعراءُ من لغة التّحوّل لوِّنوا وجهَ الحقيقةِ..
إنَّكم في ليلِ غُربَتنا هُداةٌ..
أو نجِّموا هذي السَّماء دماءَكم لغةً لكَي يصلَ السّراةُ
لا شيء إلاّ الشّعر
و العاصي
لتُسقى نخلةٌ عربيّةٌ ظمئتْ
إذا لم يَحبلِ النّيلُ
ولم يلِدِ الفراتُ..»
«ونهرَ عاصٍ لم يزل يتدفّقُ»
يكتب كميل حمادة للشّعر، فليس له من ظهير سواه، فهو الخلاص، وهو قسطاس الوجود:
«سلامًا على الشّعر
يُشعِلُ فينا القريب البعيدَ
ويفتتِح المشهديَه».
لا تخلو قصائده من الرّمز العميق والمعبّر، فهو مطّلِع على شوارع اللّغة، يعرف خفاياها الدّقيقة وسحر بيانها حقّ المعرفة، فيتمشّى على حدودها، وحدود فكره الخاصّ، وهو على يقين بأنّ شمس اللّغة ستُشرِق من نوافذ روحه:
«صبحٌ على لغتي سيُشرِقُ من نوافذ روحيَ الزّرقاء
تفتحُها النصولُ..
ظبيٌ سيعدو في سهول كلاميَ الأفقيّ.. تتبعه الوعولُ».
ويتسرّب الحبّ إلى زوايا الدّيوان، فيُرتّل الشّاعر آياته الخاصّة «للمرأة اللّغة الخائنة» كما سمّاها في الإهداء، فهي:
«وإن قالت: صباحُك
داخ قلبي
كما داخت بِأندلُسٍ شآمُ».
وتتنازعه رياح الشّهوة والرّغبة لتذوّق توتها البريّ:
«رُشِّي غِناء التُّوت فوق أصابعي..
زريابُ ضيّعَ عُودَهُ ومَقَامَهْ
وتوزَّعي فوق السَّرير فراشةً
لأصير مُبتدأ الهوى.. وخِتامَهْ»
لكنّ حمادة لم ينجُ من المرأة الفراشة الّتي ثقبت روحه، ولا من الشّعر الّذي يسكنه:
«نجوت من كلّ شيءٍ كنتُ أدخُلُهُ
حتّى الرّصاصات في قلبي الّذي ثُقِبا
لم أنجُ منكِ.. ومن عبء يخضّ دمي
يُسْمُونَهُ «الشّعرَ».. يوري في دمي الشُّهُبا»
فلا يهزّ كيانه إلاّ المرأة والقصيدة:
«أنا أمّ الشّعر..
كوني مطلعًا نَزِقًا
وكُلَّهُ نّ
لأغدوْ
كُلّ من عشقوا»
«لا تُطفِئِي فيَّ القَصيدَهْ
لا تَتْرُكي شَفَتِي شَرِيْدَهْ
لا تُهْمِلينيْ مِثلَ أبناءِ اللُّجوءِ
تَكَوَّمُوا خَبَرًا بِزَاوِيَةِ الجريدَهْ».
ويطرح الشّاعر تساؤلاً هامًّا:
-»لمن تكتب الشّعر؟
-لامرأة لن تجيءْ
ولامرأة تستفزُّ الكنايةَ..
تُشْعِلُ في البحرِ ملحَ الحكايةِ..»
إنّ كميل حمادة المسكون بالقلق، يُعرّج من دون براق في فضاءات الشّعر، ويبدو كأنّه بعض نبيّ أو قدّيس يتلمّس الغيب ويسعى إلى اليقين:
«أنا مولعٌ بالغرابة
مشتعلٌ بالمدى والقلقْ
نبيٌّ على وحْيِه لا ينام … ويحيا على غيمة من أَرَقْ»
صحيح أنّني لا أعرف سرّ النّفس المستشعِرة، ولا أستطيع معاينة الدّاخلين إليها من أهل الجنّ، وما يُوسوِس فيها الموسوِسون من الشّياطين، أو ما يُنزِلُه الوحي، فكلّ ما أعرفه أنّني من الغاويات المسحورات، وأحبّ أن أجيب عن سؤالك أيّها الشّاعر، حين قلت:
«ماذا أضفت إلى القصيدة»؟
ومن الشّعر لسحر، هكذا يقول الرّواة، وأنت لففتنا بسحر شعرك الرّاقي، وبقدرة نصّك على تحطيم المسلّمات والحدود المصطنعة:
« وغدًا.. غدًا
سأقول للحبّ النّبيل بأنّني.. «أنا لستُ لك»
وأقول للشّعر الجميل بأنّني.. «أنا كلّي لك»
أنا كلّي لكْ».
هكذا يصل حمادة إلى عطاء لا محدود، ثمّ يُغادِر بصمت إلى الكتابة من جديد…