الإدارة الأميركية… حنين إلى زمن القراصنة!
محمد ح. الحاج
منذ القديم كان للدول جيوشها من الفرسان يوم كان السيف والرمح هما السلاح، وتطوّرت لاحقاً فامتلكت المدافع ثم الأساطيل والبنادق البدائية، وعلى الدوام شكل فائض القوة عند الكثيرين الدافع لممارسة الغزو ونهب ثروات الآخر واحتلال أرضه وإخضاع شعبه، واشتهرت الكثير من الدول بأنها استعمارية وعلى رأسها بريطانيا التي كانت امبراطورية لا تغيب عنها الشمس حتى أنها كانت تحتلّ أغلب أراضي القارة الأميركية الشمالية والتي منها اليوم الدولة الأعظم.
البعض من الفرسان أو ضباط الجيوش القديمة بعد أن امتلكوا السفن التي تحمل أربع وعشرين مدفعاً أو أكثر مارسوا عمليات اعتراض السفن التجارية أو الإغارة على الجزر الصغيرة بقصد الاستيلاء على الثروات، ومن المعلوم أنّ الكثير من السفن التجارية كانت تحمل المعادن والمواد الثمينة وبينها الذهب أو الفضة، وأطلق على هؤلاء لقب القرصان وكثير منهم أصبحوا من المشاهير عبر التاريخ وتروى عنهم القصص، ثم جاء عصر التوافق الدولي للقضاء على القراصنة وفرض الأمن الملاحي وتحديد الخطوط والممرات وحدود الدول، بما يمكن تسميته عصر الأمن والأمان وسيادة القانون الدولي، لكن ذلك لم يمنع الحروب وطموحات التوسع ومحاولات السيطرة على الآخر ونهب ثرواته أو استمرار عمليات الاستعمار رغم حركة التحرر الواسعة التي شملت معظم أنحاء الكرة الأرضية، وكان من أهمّ تلك الحركات تحرّر أميركا من الاستعمار البريطاني وما تلا ذلك من حروب داخلية بين الشمال والجنوب، إلى أن تبلورت بشكلها الحالي «الولايات المتحدة»، والتي تطوّرت بعد حربين عالميتين لتصبح القوة الأعظم بما تملك من ثروات وتطور أسلحة.
تنشر الدول قواتها العسكرية على حدودها لحماية نفسها، وتركز هذه القوات على المناطق التي تتعرّض لخطر الهجوم أكثر من غيرها، وتلجأ بعض الدول إلى عقد اتفاقيات دفاع مع دول قوية لحماية نفسها وهذا ما فعلته دول أوروبا الغربية حيث تعهّدت الولايات المتحدة بحمايتها فأنشأت على أراضيها القواعد البحرية والجوية والمعسكرات والتزمت أغلب هذه الدول بدفع مقابل ولو بشكل رمزي، لكن الولايات المتحدة لم تكتف بذلك بل وبسبب الصراع والحرب الباردة، والساخنة أحياناً كما في جنوب وشرق آسيا لجأت إلى احتلال بلدان كثيرة وأقامت فيها قواعد، واستمرّت على هذا النهج إلى يومنا هذا بحيث لم تعد أيّ من القارات أو الدول تخلو من قاعدة أميركية جوية أو بحرية، ونموذجها الأوضح على مساحة الدول العربية والكثير من دول أوروبا الشرقية التي كانت تشكل جزءاً من محور الشرق أو ما عُرف بحلف وارسو، هذا الانتشار لم يعد لضمانة الأمن والسلم الدوليين وهو المبدأ الذي قامت علية الإدارة الأميركية في بداياتها، بل تجاوز ذلك بكثير وهذا يحصل نتيجة فائض القوة التي لم تعد حاجة دفاعية أميركية، أو ما يحتاجه الحلف الذي أنشأته الناتو بل إنه وعلى المكشوف أصبح لفرض سلوك تريده هذه الإدارة على العالم أجمع ولتظلّ الدولة الأعظم دون منافس، وهذا يدخل في باب المستحيل بوجود قوى أخرى ترفض هذا الإملاء سواء بالنسبة لها أو لدول أخرى تتحالف معها وتشكل مداها الحيوي والاستراتيجي أو مصدراً لموادها الأولية وسوقاً لمنتجاتها بما في ذلك الأسلحة، وهنا يبدو الوريث الشرعي للاتحاد السوفياتي الاتحاد الروسي – هو المؤهّل بعد فترة من الركود السياسي العسكري والاقتصادي.
العدو الآخر حسب تصنيف الإدارة الأميركية هو الصين التي تجتاح بصناعاتها العالم، وهي تطوّرت على كافة الأصعدة ومن ضمنها العسكرية والفضائية، ولم يحدث ذلك بغفلة من الزمن بل بتعاون مع الروسي وأمام أنظار ورقابة الأميركي المدين لهذه الدولة بترليونات الدولارات، ولهذا ليس من مصلحة الطرفين الروسي والصيني انهيار الدولار وإيجاد بديل فقد لا يقتصر تأثير ذلك على الولايات المتحدة بل يطالهما أيضا إضافة إلى اضطراب التجارة العالمية وانهيار الكثير من اقتصادات الدول الصغيرة والمتوسطة، ومن هذا المنطلق تبدو سياسة الدولتين متناغمة وهذا ما تدركه وتراهن عليه الإدارة الأميركية المدينة والتي تقع تحت عجز هائل بسبب الإنفاق المتزايد على انتشارها الكوني وقواعدها وجيوشها العديدة التي تحتلّ نصف العالم.
بعد مجيء الرئيس الجديد ترامب وهو رجل مال وأعمال ولا علاقة له بالسياسة الدولية ولا يفكر أبعد من الصندوق والأبواب والمنافذ التي توفر لدولته المزيد من الدخل، وهو مَن اعتبر بعض الدول مجرد بقرة حلوب، لأنها ثرية يجب أن تدفع أثمان حمايتها، وكذلك تقوم مراكز أبحاثه باختلاق أعداء لحلفائه ليزداد ارتباطهم به والتعلق أكثر بحمايته ولو كلفهم ذلك ثروات بلادهم أو إفقار شعوبهم، إضافة لخلق حروب داخلية بينية لتصريف المزيد من السلاح المكدّس في المستودعات الأميركية خصوصاً أنه لم يعد صالحاً للحروب الحديثة، وآخر الأمثلة الحرب الكونية بواسطة المرتزقة على سورية والعراق، أو بواسطة جيوش التحالف على اليمن الدولة الفقيرة بقدراتها العسكرية والمالية، والتي رفض شعبها منذ فجر التاريخ الاحتلال الغريب على أرضه.
تتفاقم الأزمة المالية للإدارة الأميركية، ولأنّ الجباية الحالية والموارد لا تتناسب مع الحاجة تجد هذه الإدارة نفسها أمام خيارين، الأول: هو الحدّ من الانتشار على مساحة العالم وتقليص القواعد العسكرية وخفض الإنفاق وهذا ما لا يوافق عليه غلاة المحافظين وحكومة الظلّ العالمية، الثاني: المزيد من الجباية ولو بطرق قسرية يتمّ فيها استخدام فائض القوة وهذا ما يمكن ملاحظته من محاولات السيطرة على فنزويلا وقبلها البرازيل وأيضاً ليبيا والعراق وإيران، وأيضاً سورية لأنّ هذه الدول لا تشكل مصادر دخل كبيرة للشركات الأميركية التي لها أذرعها السرية عن طريق شركات أخرى أوروبية، لكن بنسبة أقلّ بكثير من الشراكة المباشرة، وأيضاً لأنّ هذه الدول لا تشكل سوقاً رئيسة للمنتجات الأميركية وخاصة العسكرية.
هل تتجه القوة الأميركية بسبب الغطرسة إلى ممارسة عمليات القرصنة على الساحة العالمية، على مساحة البحار وفي الأجواء؟
هذا الأمر أصبح في حكم المؤكد بعد أن خرجت القوة الأميركية على القانون الدولي وكلّ الشرائع والاتفاقيات المعمول بها، فهي تعترض مسارات التجارة العالمية وحركة السفن في البحار والطائرات في الأجواء وتفرض العقوبات بشكل إفرادي بعيداً عن المنظمة الدولية يساعدها على ذلك سيطرتها على البنوك الدولية ورقابة مشدّدة على حركة الأموال وتحالفات ملزمة لعديد من الدول رغم مظاهر التمرّد الخجولة من بعض دول أوروبا وإعلانها النية لتشكيل جيش أوروبي والتزامها الاتفاق النووي مع إيران، وهذه البوادر تثير ردود أفعال أميركية عنيفة يعلنها أكثر من مسؤول وعلى رأسهم ترامب الذي يطالب الأوروبيين بدفع كامل نفقات قواته وقواعده على مساحة القارة بما في ذلك طعام كلاب ضباطه وجنوده وأجور انتقالهم وما إلى ذلك.
في الشأن السوري، فشلت الخطط العسكرية في إحداث التغيير المطلوب لوضع الشعب السوري تحت الوصاية الأميركية أو إدخاله حظيرة الشرق الأوسط الجديد بما يخدم المصالح الصهيونية، وهكذا بدأت حرب من نوع آخر تستخدم فيها عمليات القرصنة بأجلى صورها، منع حاملات الوقود الغاز والمشتقات النفطية والمواد الغذائية من الوصول إلى الموانئ السورية، منعها من عبور باب المندب أو قناة السويس بمساعدة كلّ من البحريتين المصرية والسعودية، وما توارد من أخبار ضرب وإغراق ناقلة سورية وفقدان العديد من بحارتها في المياه الإقليمية ما يدفع للاعتقاد بتدخل البحرية الصهيونية تحت ستارة أميركية كأن تقوم غواصة بعملية الاستهداف، وأيضاً احتراق ناقلتين في البحار الدولية، واحتجاز ناقلتين في المياه القبرصية، وكلها عمليات مشبوهة خارجة على القانون ما يبعث الحياة ناشطة بإعادتها إلى زمن القراصنة.
القرصان الأميركي يقول إنه يراقب وزارة الصحة اللبنانية! أمر يدعو للسخرية إذ لم يعد مكتفياً بمراقبة الدول والحكومات ليدخل في التفاصيل الصغيرة.
أما الجواب الذي سوف يتلقاه من كلّ المستهدفين، وقد يكون منهم حلفاؤه الأوروبيون: لم نعد نخشى من الأعداء، فهم ضمن إدارتكم، سنتحمّل ونصمد ولن نساوم، كما لن نكرّس حياتنا وعملنا وإنتاجنا وثرواتنا لخدمة قواعدكم وأساطيل القراصنة التي تهدّدون بها…